من غريب الامور ان يتبدّل النظام العالمي في شكل جذري بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ولا تتبدّل معه مؤسساته وبناه التحتيّة التي كان يرتكز عليها هذا النظام. فبحسب الكاتب الاميركي الفين توفلر، مرّت البشريّة عبر تاريخها بثلاث موجات، الاولى زراعيّة كانت الارض وملكيّتها تشكّلان فيها مصدر الثروة والسلطة. والثانية صناعيّة كان فيها الانتاج ورأس المال مصدري الثروة والسلطة. والثالثة تكنولوجيّة تعتبر فيها المعلومات مصدر الثروة والسلطة. لكن بروز هذه الموجة الأخيرة لا يعني ان الموجتين الاوليين زالتا. اذ لا تزال لكل موجة وسائلها ومؤسساتها. فأميركا تخوض حروبها بقنابل ذكيّة موجة تكنولوجيّة. وتحدث المجازر في رواندا باستعمال الخنجر والمنجل والسيف موجة زراعيّة. تعني هذه الامور أن تركيبة النظام العالمي - أي نظام - وأن الترتيب العالمي للقوى العظمى، امر ذو علاقة مباشرة بالموجة السائدة. فالنظام العالمي، يستعمل وسائل الموجة السائدة ولغتها وقدراتها كي يرتسم واضحا. فالمدفع، مثلاً، ايام نابليون، هو غيره الآن مع القنبلة الذكيّة. وبالتالي ما انتجه المدفع مع نابليون، على صعيد القارة العجوز، من نظام عالمي ومن مؤسسات، غير ما انتجته القنبلة النوويّة من نظام عالمي بعد الحرب الثانية له مؤسساته، وفي طليعتها الاممالمتحدة التي ورثت عصبة الامم التي كانت بدورها نتاج حرب عالمية. عصبة الامم فشلت وقتها. أما الاممالمتحدة، فكانت لها نجاحاتها المحدودة، وكان لها فشلها في العديد من الازمات. قد تاتي القضيّة العربيّة - الفلسطينية - في مقدم هذه الأزمات. يكثر الحديث حاليّا عن إصلاح هذه المنظّمة الدولية، بخاصة ان سبب إنشائها وظروفها وموازين القوى التي "فبركتها" في ذلك الحين، كلّها لم تعد موجودة تقريبا. فالنظام العالمي الذي كان سائدا خلال الحرب الباردة، سقط إلى غير رجعة. والدب الروسي إنكفأ إلى الداخل. وبسط النسر الاميركي جناحيه على الكرة الارضيّة من ضمن مشروع هيمنة على العالم، لم نرى من فصوله إلا اوّلها. وأدّى هذا السقوط، إلى إعادة توزيع القوى في العالم، وبالتالي إلى إعادة ترتيب الهرميّة في النظام العالمي. وبسبب هذا الوضع المستجدّ، كان لا بد من ان تصبح مؤسسات النظام العالمي القديم - بالتحديد الاممالمتحدة - من دون نفع لظروف جديدة لم تكن اصلا معدّة لها. فهي اصلا لم تنجح في السابق - في المهمّة الاساسيّة - فكيف ستنجح في الوضع الجديد؟ إذا اردنا ان نعرف ما هي الاصلاحات، وجب علينا ان نتعرّف على التحديّات المستجدّة مع هذا التغيير الجذري. ويجب ان نعرف وبعمق موازين القوى القائمة، وما اذا كانت هذه الموازين قد اصبحت ثابتة، يعترف بها الافرقاء، كما اعترفوا بها بعد هزيمة اليابان والمانيا -الحرب الثانية؟ وإذا عرفنا كل هذه الامور، فمن المنطقي ان نحدّد الاهداف، وبالتالي الاستراتيجيّة الكبرى التي تجمع عادة بين الاهداف والوسائل وطريقة التنفيذ. فهل الاهداف للقوى الكبرى المؤثرّة اهداف متجانسة متطابقة؟ يصعب الجزم هنا. وقد يعود سبب عدم الوضوح الحالي على الساحة العالميّة، إلى ان سقوط الاتحاد السوفياتي اتى من دون حرب عالميّة ثالثة، كان من الممكن ان تحدّد نتيجتها الرابح والخاسر، حيث يفرض المنتصر ما يريد بعد انحسار غبار المعارك. يمكن سرد العديد من التحديات الجديدة. فمن موضوع الارهاب بعد كارثة 11 ايلول سبتمبر، إلى مواضيع الطاقة والتلوّث وحقوق الانسان والامراض والسلام العالمي والمجاعة وما شابه. يمكن القول انه لا يوجد توافق على كيفيّة معالجة هذه التحديات. فأميركا تخوض حربا عالميّة على الارهاب. وتعتبره الاخطر الاهم على السلم العالمي. في وقت يعتبر البعض انه خطر عابر يمكن معالجته بوليسيا، ودون إعلان الحرب الكبرى عليه. ويمكن القول ان لكل قوّة عظمى حربها الخاصة على ما تسميّه إرهاباً. فلروسيا حربها ضد الشيشان. وللصين حربها ضد المسلمين في اقليم جيانجينغ الغربي... بغضّ النظر عن المثاليّات، من قبيل المطالبة بالاصلاح في مجالات حقوق الانسان والمجاعة والامراض، فان الدول الكبرى من الترتيب الثاني فرنسا والصين مثلا ومن الترتيب الثالث البرازيل حين تطالب بإصلاح الاممالمتحدة، تريد ضمنيّا الدخول في شبكة القرارات الدوليّة، والمشاركة في عمليّة إتخاذ القرار على صعيد الساحة العالميّة. وإذا ما استطاعت هذه القوى إصلاح الاممالمتحدة كما ترغب، فقد يعني ذلك انها اصبحت على خريطة الدول الكبرى. لكن الهدف الاهم للدول التي تطالب بالاصلاح، هو الدخول إلى مجلس الامن. وهنا يكمن لبّ المشكل حاليّا. فهل هذا ممكن؟ لكلّ دولة تطالب بالدخول إلى مجلس الامن اهدافها كما لديها صعوباتها. فإذا ارادت الهند الدخول، نظرا إلى حجمها، سينعكس الأمر على موازين القوى الاقليميّة في ظل عدائها مع باكستان، وإذا ارادت اليابان- ثاني مموّل للامم المتحدة بعد اميركا - دخول مجلس الامن. فماذا كوريا الجنوبيّة؟ وإذا ما ارادت استراليا الدخول، فماذا عن اندونيسيا؟ هذا في الطلب العادي. لكن ماذا عن العمليّة الاداريّة -البيروقراطيّة للتعديل؟ فالتعديل يتطلّب تعديل شرعة الاممالمتحدة. كما يتطلّب إدخال اي عضو جديد إلى مجلس الامن موافقة الاعضاء الدائمين من دون استعمال حق الفيتو. وهنا تكمن صعوبة الاصلاح بسرعة. وهنا تثار الأسئلة: هل تقبل الولاياتالمتحدة المهيمنة ان يشاركها المزيد من الافرقاء؟ وهل تسهّل إضافة اعضاء جدد عمليّة اتخاذ القرارات ام تعقّدها، وهل ان العمل مع 15 عضواً خمسة فقط مع حق الفيتو اسهل ام اصعب من العمل مع عدد اكبر من الدول، بخاصة إذا اعطي للاعضاء الجدد حقّ الفيتو؟ يبدو إصلاح الامم المتحدّة عمليّة معقّدة جدّا. وذلك يعود إلى عدم وضوح شكل النظام الذي انبثق بعد الحرب الباردة. وبانتظار تبلور هذا النظام، يأمل المتشائمون ان لا يكون تثبيت النظام الجديد وتظهيره عبر حرب من نوع جديد. * عميد ركن متقاعد، أستاذ في جامعة سيدة اللويزة - لبنان.