"رسائل الغريبة" دار النهار - بيروت 2004 خلوات كتابية متقطعة، جُمعت في نصوص مختارة، لا يعقد بينها سياق سردي واحد يضطرد منساباً ومتواصلاً كما في القصة أو الرواية. بل ثمة هاجس مقيم يلمّ شملها ويحكم كل مشهدياتها القصيرة، الشبيهة بلقطات خاطفة انخطاف الذهن المتأمل في لحظات تفكر قلق، تراود الكائن في عراء غربة يفرّ اليها ويهجس بتدجينها، يمحضها طاعته ونسياناته، فتظل عصية ويظل غريباً يشحب ويتضاءل، ويغتذي أحقاده الدفينة و"يزداد كرهاً للبلاد التي كرهته" وأكرهته على الرحيل. الكره الذي لا يتعافى ولا يُسعفه النسيان أو الغفران ينقضه ضده الكامن في الوجدان، يصير وجهاً آخر من وجوه العلاقة الملتبسة حين نكره ونحب في آن واحد. هكذا يتجاور الضدان في "رسائل" هدى بركات التي تؤبِّن وطناً عقوقاً ما عاد ممكناً. رسائل نزعم اختلافها وخصوصية خطابها في تناول ما تناولته أدبيات الغربة في بعض النصوص الشعرية أو النثرية. فلئن ادعى البعض، على سبيل المثال، أن قصائد بدر شاكر السياب التي قالها في حب العراق تضمر في الآن عينه كرهاً موازياً، وعتابه فيها يبطن نقمة عارمة - نستشف في نصوص بركات ما يعلن عنها ويسير اليها مباشرة - إلا أنها نقمة تُعلي نبرة حب يغلب اليأس، يزيحه ويراهن على عودة لم تتحقق في الواقع سوى بالموت. نقمة السياب هذه تحيل الى جبران الذي مايز بين لبنانين متنافرين متناقضين، تشاطرا منه الحقد والمحبة، ولا التباس على ما نظن في ما حمله الى مثل تلك القسمة تذهب بالجزء المعطوب من الوطن الى العدم، وتبقي على جزئه الآخر بريئاً، معافى وأزلياً. الأزل الذي سقط في الهوة زمن بركات، ومحقته الحرب الأهلية، هذا الأزل أمسى كذبة مخترعة تراوغنا في أغنية لفيروز، لا نصدق كلماتها، نعاتبها ونبكي حزناً، خوفاً، ندماً وأسفاً على أبناء صاروا كالغرباء، لا يأتيهم الوطن المفتت الذي "- ربما - لن يكون وطنهم في المستقبل" إلا على متن أغنية هيهات أن تعمّر ما تهدم. غير جبران والسياب ثمة أدباء أباعد كثر أغربوا في البلاد، بطوعهم أو قسراً، نأوا عن الأوطان الجحودة، أسكنوها نصوصاً تقابلت فيها الأضداد، فتجاور الحنين والنسيان، الحقد والغفران، المحبة والكره، لكنهم ما خاطبوها مرة خطاب النهايات ولم يستنزفوها رهان تلك الصلة الرحمية تحفظ للأبناء والأحفاد مطارحهم التي تمتلئ بهم وتظل لهم في الغياب كما في الحضور، يستحضرونها فتهزج لهم بوعد العودة من حيث يمكثون في جهات الأرض غرباء كانوا أم مغتربين. فبين المفردتين فارق أشارت اليه معاجم اللغة لتُسقط عن اللفظين شبهة المعنى الواحد، ولتزيل عنهما لَبس المشاكلة، تكفنا عنها، وتقول بالاختلاف نميز فيه بين دلالة الفعل ودلالة الافتعال. ذلك ان الغربة فعل شعوري محض، وهي أيضاً جذر سابق لما يتفرع عنه من الاشتقاقات من مثل الاغتراب الذي هو افتعال من الغربة، ووجه واحد من وجوهها المكانية يبطل ويزول بالعودة الى الأرض الأم أو المكان الأول. من هذا الباب نقارب غربة هدى بركات لا اغترابها نستبينها قصداً ابتغته وأرادت ألا تضل عنه في قراءة رسائلها، تخالف الشائع والمألوف من رسائل الغربة، نكبتها عادة بارتجال يقرب المشافهة المتعمدة، تجعلنا نصدق الخدعة ونفترض مشاهدة موهومة لا تتحقق على غير الورق، نبلّغ عبرها خطاباً حميمياً مباشراً يطمئن الآخر البعيد هناك، يجيء به الينا أو يحملنا اليه، يقرّب ما بيننا ويعيدنا الى مكان بعينه، مكان الالفة الأولى لا تعترف بمرور الزمن ولا بتبدل الأحوال، تبقى ثابتة، عالقة في الذهن على شاكلة ماضيها، حتى حين يتحوّل المكان الى مجرد صورة عتيقة تبهتها المسافة المزمنة، ننتشلها من الذاكرة العنيدة، تقبع فيها مثل طلل جميل، مثل وطن جميل ما عاد يؤوينا ولا عاد يشبه صورته. خلافاً لعرف هذه الرسائل، تكتب هدى بركات رسائل غربتها، تضمنها خطاباً يشافه نفسه، يكاشفها بصوت عال يستضيفنا نحن المقيمين "هنا" و"هناك"، يستدخلنا، عمداً أو عن غير قصد، خلوة المكاشفة القلقة والمقلقة، لا تستدرج الوهم أو تقترف الخديعة، ولا تستقدم الآخر لتطمئنه وتطمئن بقدر ما تتوجس من طغيان "الرمادي" "الذي بات يواتينا داخل البيت عما خارجها" ص 12، أو من سطوة المسافة المشرعة على مزيد من البعد والاتساع، هذه المسافة التي "ستزداد في شكل مطرد لا مردّ له كلما تكررت زياراتنا الموسمية للبلاد" ص 57، وكلما صار "البقاء خارج حقل الجاذبية بين قطبي ال"هنا" وال"هناك" صعباً وعسيراً" ص 57. "تخيبها العودة كل مرة، تكررها كمن يكرر خطأ محسوباً" ص 30، وفي كل مرة تزداد غربة. وفي توجسها تستشرف مصيراً بات منفصلاً أو شبه منفصل عما يحلم به الواهمون الوالغون في غربتهم لما يوقدون أحلام العودة يستدفئونها أنساً تهويمياً أو بقايا حنين يتخثر. الحنين المذبوح، تمرنت على سفحه ونسيانه، وما عادت الصدفة تنكأه، ولا عاد يباغتها تحت وطأة لقاءات عابرة تتلافاها تجنباً لذلك "الايقاع الذي قد يردنا الى أنغام نعرفها في فضاء المكان الذي غادرناه والذي لم نعد نتلهف للقاء القادمين منه" ص 12. ولئلا يعوقها التذكر ويعكر صفو تمرينها اليومي في نهارات غربتها تسير هادئة، رتيبة وواسعة الأفق، معفاة من "التورط في أحمال ثقيلة الذاكرة والحركة والهواء، دونما حنين بائد أو أدبيات تقوم على التباكي من المنفى والغربة ولوعة الأوطان" ص 42. حين غادرت الوطن، الأزل الساقط في وهمه، أقسمت "يمين البعد الى غير رجعة"، لبست مسوح الغربة، "نذرت التقشف والزهد"، تخلت عن بذخ الذاكرة وروّضت وحشتها. فالوحشة، على ما تقول، لا تلائم الغرباء وحنينهم كالاثم يُفسد نذورهم. لذا أشاحت بوجهها عن الماضي، أغلقته لتباشر زمناً آخر في البلاد البعيدة، تفزعها "صباحاتها القاتمة، يكاد النهار أن ينتصف والضوء لا يأتي" ص 42، تهفو الى الضوء، تهن وتسقط في التذكر، وتحنث بيمينها فتفتح ألبومات الصور، ترتشف وجوه الأهل ثم تتملى صور الأصدقاء هناك، تشعر كأنها صور كاذبة، "كأن بعضها لغرباء"، أو "لعلها التقطت في بلاد غير موجودة" ص 21. تعيد الصور الى "عليائها"، "تقصّ زمنها" تنفصل عنه وترده الى سماء "أكثر انطفاء من السماء هنا وأشد عتمة" ص 44. تتدثر غربتها من جديد، وتدرك ان اللعب غير ممكن "فنحن لا نكون في مكانين اثنين في وقت واحد". وجلّ "ما نستطيعه أن نتسلى أحياناً بالتحديق في مياه النهر" ص 69، المياه العابرة وهي تجري، جريانها يشبه حياتنا، نصير مثلها بلا ضفاف ولا حدود، ولا نملك أن نستقطعها مكاناً لنا، نسميه "هنا" أو "هناك"، نحرثها بلا رهان ونكتفي فقط بفتنة التأمل تذهب بنا الى عبث الأمكنة المستعصية. في البلاد البعيدة يتعاقب المكان عليها، تستكين الى هدأته، تغرق في نسياناتها وتنقطع عن أخبار البلاد "وتكاد تطمئن الى استقرار حياة تسيل وتجري كالنهر الهادئ" 34، الى أن يباغتها هاتف العيد فتدهمها ثانية تلك اللحظات المشحونة برغبة العينين تتوقان الى شباك عار بلا ستارة، منه تتسلل البلاد المنسية تلك التي تحبها وتكرهها في آن واحد، وتريد أن تصدق "أنها بلاد تشبه البلدان"، وهي، يوم اختارت الرحيل عنها لم تلتفت الى الوراء، تمنت "أن يحول الرب كل ما كان وراءها الى تماثيل من الملح... في تلك البلاد التي سأنكرها ثلاثاً كل صباح. حتى لو بكيتها حتى الهزيع الأخير من الليل" ص 74. هذا التجاذب الشعوري السافر حيناً، الخفي أحياناً بين "هنا" و"هناك" معطوف على ما يوازيه من المقابلة بين عيشهما يحكم معظم نصوص بركات، وتكشفه لنا مشاهدات ويوميات، تفاصيل وتداعيات، تستذكرها وتكتبها من غير تكلّف أو عناء أو ادعاء، ولا تتوسل فيها تجريداً ولا ترميزاً أو تلميحاً. ولا يقلقها البوح مباشرة بواقع الأشياء. تقول ارتباكها وتعثر ذاكرتها أمام الصديق الأجنبي، وتحيل ذلك الى "ضياعي المستمر "هناك" في ذلك المكان... في عدم عثوري على ما يشبه الكراسي أو الأسرّة، على الأشياء التي نرتاح أو نستقر فيها... في الوحشة القديمة" ص 40. في المقابل تبدو البيوت "هنا" عابرة لا تنزل فيها أو تقيم، بل تستقلها من زمن الى زمن آخر "بيوتنا هنا أكثر عبوراً من تلك التي أتمناها في بلادنا أيام الحروب" ص 81. وفي مكان آخر تسخر من الرمز والجوهر والسرمد وكلها تختزل في احادية طائفية أو "مناطقية". ثم تعترف لاحقاً بخجلها من مشاعرها الوطنية أو "ضد الوطنية". "من كراهيتي لنفسي ولمواطني، من نسياناتي وذكرياتي، ومن ضعفي ازاء الأذى الذي تستمر هذه البلاد تحفره في قلبي" ص 73. حديث الغربة في رسائل بركات لا يتعملق ولا ينطح صخراً، ولا يدعي الحكمة أو التأمل في الوجود أو يغوص في الأسباب والنتائج. وفي المقابل لا تغرقه نبرة التشكي واللوم والأنين. جلّ ما نسمعه حفيف الوحشة القديمة "تتعمشق" على حبال الذاكرة وهي تهترئ خيطانها أكثر كلما حملتها الى المكان الأول، تعود منه الى هجرتها "بقبض الريح، بزهد جميل" في كل مرة، وبرغبة أكبر في الحياد، في النسيان وفي الغفران. ربما هي بشارة اللاعودة، لا سيما أن الأبناء باتوا يرطنون بالعربية رطانتهم باللغات الأخرى، كأنها "لغة كغيرها، واحدة من عديدات..." لسان لا تزال هدى بركات تكتب به رسائلها.