ارتبط الإنسان منذُ الأزل بالمكان الذي أبصرت عيناه النور فيه، ونما وتَرَعْرَعَ من خيراته، وكون علاقة ودِّه الأولى معه؛ فأصبح هذا المكان ناطقًا بأيام الطفولة، وذكريات الصبا، وقصص الأهل، والأحبة، والأصدقاء وكأنه أصبح وجهًا آخرَ للماضي الجميل، ولحظاته الخالدة. ويعاني الإنسان من آلام الفراق حين يشدُ رحاله بعيدًا عن هذا المكان الذي أصبح جزءًا من كينونته؛ فيحن إليه في كل حين، ويذرف الدموع مدرارًا عند ومضة بارق من حماه. يقول أبوتمام: كمْ منزل في الأرضِ يألفه الفتى وحنينُه أبداً لأولِ منزلِ والغربة معناها مُرتبط بالمكان، والترحال؛ لكن تأثيرها مُرتبط بالمشاعر؛ فتبث آلامها في النفس البشرية عند الإحساس بعدم الانسجام مع المُحيط الذي يُحيط بالإنسان؛ فالغربة أعم وأشمل من حصرها بالبعد المكاني. وغربة الفكر وجَدَ الأنبياءُ أنفسهم فيها في بداية دعوتهم وسط مجتمع تُسيطر عليه الخرافة والجهل (وأَعْتَزِلُكُمْ وما تَدعونَ مِن دونِ الله) إلا أنَّهم صبروا، ووقفوا في وجه الباطل؛ حتى أشرقت الأرضُ بنور ربها. وفي شتَّى أنواع المعرفة يُعاني أصحاب الوعي المرتفع غربة فكر وسط مجتمع يعاني من سطحية التفكير، والانشغال بتوافه الحياة اليومية؛ فتفاوت عمق المعرفة يأخذ هؤلاء المفكرين إلى الاختلاء بأفكارهم، وتأملاتهم في الحياة، ونلمح هذا في مقولة الكاتب الكبير جبران خليل جبران: »مُملة الوحدة لكنها أكثر إنصافًا من ضجيج يمتلئ نفاقًا « وقد يعيش الإنسان غربة الفقد المرتبطة بغربة المشاعر وهو في دياره حين يفقد الأحبة، وسبب هذه الغربة الامتزاج الروحي مع أحبته؛ فيشعر بالوحشة حين فقدهم ولا يحس بالأنس إلا مع خيال أولئك الراحلين، يقول بهاء الدين زهير: غِبتمْ فمالي مِن أُنسٍ لغَيبَتِكمْ سوى التَّعللِ بالتذكارِ والأملِ وتظهر الغربة بأحزانها حين يتسارع الزمن، ويفصل بين أفكار الأجيال؛ فيحس كل جيل بالغربة مع الجيل الآخر وهي غربة يقوى فيها الاختلاف النفسي، والفكري ونلاحظ مظاهرها في نقمة كل جيل على الجيل الآخر. ومع تطور التكنولوجيا وظهور الأجهزة الذكية ازدادت الروح غربة؛ فتجد الأهل يظلهم سقف واحد، وقلوبهم مع عالم افتراضي بعيد كل البعد عن واقعهم، وهذه الغربة قد لا يشعر بها أصحابها؛ لكنها غربة في عمق الروح وأضرارها الاجتماعية جسيمة. وقد تكون الغربة جماعية كما حصل للأندلسيين عند سقوط الأندلس، وكذلك شعراء المهجر في العصر الحديث؛ فقد أظهروا مشاعر الحزن في أشعارهم وعبروا عن شدة الفقد، وتغير الأحوال وتكون لديهم عقلًا واحدًا يعاني الغربة عبر عنه لسان الدين الخطيب بقوله: جَادَك َالغيثُ إِذا الغيثُ همى يا زمانَ الوصلِ بالأَندلسِ ولم يكن شعراء المهجر أقل لوعةً واشتياقًا لأوطانهم من الأندلسيين، وهذا أحمد زكي أبوشادي يصف حالهم: أنا الغريبُ وروحي شاركتْ بدنِي هذا العذابُ بأشواقِي وأحزانِي ويبدو أن للغربة طيفًا يلازم الإنسان في هذه الدنيا من حين خرج أبوه آدم من الجنة حتى يعود إلى بارئه،(واتَّقُوا يوماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى الله). Your browser does not support the video tag.