رمسيس عوض. الهولوكوست بين الإنكار والتأكيد. دار الهلال، القاهرة. 2000. 320 صفحة. قبل التعريف بمحتويات الكتاب الذي نتناول، يجدر بنا التعريف بكلمة الهولوكوست، التي جاء عنها في "موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية" للدكتور عبدالوهاب المسيري: "الهولوكوست كلمة يونانية تعني "القربان الكامل" وهي تستخدم في العصر الحديث للإشارة الى إبادة اليهود على يد النازيين". فمن الذي أنكر أو أكد الهولوكوست بحسب ما جاء في كتاب الدكتور رمسيس عوض؟ يحتوي الكتاب على ثلاثة أقسام، لخص فيها صاحبه ثلاثة كتب تناولت الهولوكوست النازية ضد اليهود، وصدرت في عام 2000، أي انها من أحدث ما صدر عن هذه المسألة. الكتاب الأول حمل عنوان "صناعة الهولوكوست" وصدر في لندنونيويورك للاستاذ الجامعي اليهودي نورمان ج. فنكلشتين، ويعمل استاذاً في جامعة نيويورك الأميركية. وهناك عنوان فرعي للكتاب هو "أفكار حول استغلال العذاب الذي كابده اليهود". والكتاب في ثلاثة فصول، أولها يربط بين ظهور الهولوكوست وتصنيعه وبين تفوق اسرائيل العسكري على العرب وتحالفها الاستراتيجي مع أميركا. والثاني يناقش مصطلح الهولوكوست ويبرز غموضه. ويبين الفصل الثالث والأخير ابتزاز اليهود بمساعدة الولاياتالمتحدة الأميركية للدول الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا وسويسرا. ويشير فنكلشتين الى أن تصنيع الهولوكوست، خصوصاً بعد حرب 1967 التي انتصرت فيها اسرائيل على العرب، وتوسعت في احتلال أراضيهم وتجاوزت الحدود التاريخية الفلسطينية، يسعى الى تحقيق الأهداف التالية وتوكيدها: 1- إن اسرائيل، ومعها بعض المنظمات الصهيونية، وريثة ضحايا وعذاب الضمير الأوروبي والاميركي والعالمي تجاه اليهود. وعلى الجميع، خصوصاً أوروبا وأميركا، إبقاء اسرائيل قوية وحمايتها ومساعدتها وجعلها تتفوق باستمرار على العرب جميعهم. وبالتالي يجب إبقاء اسرائيل دائماً وأبداً خارج نطاق النقد والإدانة والمحاسبة مهما فعلت، إلا في أضيق الحدود. 2- بما ان اسرائيل وريثة الضحايا من اليهود، فإن على الأوروبيين وغيرهم دفع التعويضات المناسبة والمستمرة لها وللمنظمات اليهودية في العالم. وآلة التصنيع الابتزازية قادرة على اختراع اساليب وطرق عدة، بينها: التعويض على الضحايا أو على أبنائهم أو أحفادهم المباشرين. ويذكر فنكلشتين ممارسات تمييزية في هذا الأمر: فأمّه التي اضطهدها النازيون في معسكر اعتقال حصلت على تعويض قدره ثلاثة آلاف وخمسمئة دولار نظير ستة أعوام كاملة من العذاب، في حين حصل شاؤول كاجان سكرتير مؤتمر التعويضات على دخل سنوي مقداره 105 آلاف دولار. التعويض على المودعين اليهود أو أبنائهم أو أحفادهم ممن كانوا قد أودعوا أموالهم - قبل الحرب وأثناءها - في البنوك السويسرية أو الأوروبية الأخرى، ومضاعفة الأرقام عشرات الأضعاف. وقد حصلت اسرائيل وبعض المنظمات الصهيونية على الحصص المناسبة من هذه التعويضات. 3- ابتزاز بعض الدول الأوروبية وفرض غرامات ودفع فرق أسعار ثمن الذهب الذي استولى عليه النازيون من اليهود وباعوه في أوروبا. 4- بما أن هناك عداء تاريخياً ومستمراً من قِبل غير اليهود لليهود، بحسب ما يعتقد بعض اليهود وبعض المنظمات الصهيونية، فإن اسرائيل أحوج ما تكون للحماية والمساعدة بابقائها قوية دائماً وأبداً! لذلك فالتحالف الصهيوني الأميركي علينا ألا ننسى الصهيونية غير اليهودية في أوروبا والولاياتالمتحدة خصوصاً يستمر في ابتزاز الأوروبيين ويتفنن في ذلك. ويذهب المؤرخ الاسرائيلي ايلان بابي، الى ما ذهب اليه فنكلشتين نفسه، من أن صناعة الهولوكوست هي "أكبر سرقة حدثت في تاريخ الإنسانية". كذلك يشكك فنكلشتين في المبالغة بأرقام ضحايا الهولوكوست، ويذهب الى أن تقدير عددهم بستة ملايين ضحية زعم ليس له أساس من الصحة. كما ان هذه المبالغة تثير، بحسبه، الزراية والسخرية والمشاعر المعادية للسامية. وهو يرى ان هذا الكذب يبرر ظهور الحركات المناوئة لليهود. اما الكتاب الثاني الذي عرض له الدكتور رمسيس عوض فهو "انكار الهولوكوست" للباحثة اليهودية ديبوراه ليبستادت الصادر سنة 1993، والذي أعادت دار بنغوين نشره سنة 1994 بطبعة فريدة. والكتاب - بحسب ما جاء عنه "ثمرة من ثمرات المنظمات والمتاحف اليهودية في أميركا بالتعاون مع الجامعة العبرية في أورشليم". وقد وضعت النص السابق بين أقواس لألفت الانتباه الى أن الكتاب "موسوعة" مهمة في متابعة حثيثة ودقيقة لكل من كتب أو أعلن، في بلدان عدة، انكار حدوث الهولوكوست. وهذا يفوق جهد الباحث الفرد بمفرده. وبحسب الباحثة فإن الإنكار "يمهد الطريق لظهور فاشية جديدة"، كما يقلب حجة مهمة في حياة الإدعاء الصهيوني، لأن "تحويل أي شعب إلى ضحية يضفي سلطة أخلاقية على هذا الشعب، في حين أن إنكار أنه ضحية يجرده من هذه السلطة الأخلاقية". هكذا تتداعى الأمور: فإضافة الى سلطة القوة والتحالف مع القوى العظمى في العالم، وسلطة المال والإعلام، فإن ذلك يجب أن يُرفَد أيضاً ويُسند بسلطة أخلاقية نابعة من كون الشعب اليهودي ضحية "الكراهية" العالمية. بل يجب احتكار صورة الضحية وتكريس وحدانيتها. لذلك، فالمؤلفة لم تتوان عن وصم كل من شكك بحدوث الهولوكوست بأنه يميني وعنصري. وتنتقي من تصريحات بعض هؤلاء الأقطاب ما يمكن الإفادة بما تذهب اليه. فهي تنقل عن زعيم الجبهة القومية في فرنسا جان ماري لوبن قوله: "هل تحاول إفهامي أن غرف الغاز حقيقة مُنزَّلة من السماء على كل إنسان الإيمان بها؟". وتناول الكتاب روبرت روبير فوريسون استاذ الأدب السابق في جامعة ليون بفرنسا، وهو أبرز من شكك في صحة الهولوكوست. ويصف فوريسون "قتل اليهود بالغازات السامة"، بأنه "عملية نصْب مالية وسياسية هائلة تستفيد منها دولة إسرائيل والصهيونية الدولية، وضحية هذا النصْب هم الشعب الألماني والفلسطينيون". وتحصر ديبوراه المشككين بالهولوكوست بأوساط اليمين المتطرف وبعض اليساريين المتطرفين وتتابع التاريخ الشخصي لبعضهم ومؤلفاتهم وكتبهم ومحاضراتهم. كما أنها تبدأ بالتأريخ لظهور حركات إنكار الهولوكوست اعتباراً من 1920. وتتابع مواقف بعض الكتّاب الأميركيين الذين اجتهدوا فوضعوا اللوم على الحلفاء بوقوع الحربين العالميتين وحاولوا تبرئة المانيا من هذه التهمة. ثم، وبالتداعي نفسه، انكروا الهولوكوست ضد اليهود، ومنهم البروفيسور سيدني ب. فاي وهاري ألمر بارنز وتشارلز أ. بيرد وغيرهم، أو انهم شككوا في صحة حدوثها. وتخلص المؤلفة الى نتيجة فحواها: إن الذين مهدوا لإنكار الهولوكوست لم ينكروا حدوثها لكنهم يبررونها بقولهم إن الحلفاء والسوفيات ارتكبوا فظائع لا تقل في بشاعتها عن فظائع الهولوكوست، وأن هتلر لم يكن يعلم ما يفعله أعوانه. وهذا الرأي الأخير تبناه المؤرخ البريطاني دافيد ايرفنغ، وهو الذي صبت المؤلفة جام غضبها ومتابعتها - البوليسية - التحقيقية عليه... فذكرت عنه: "إنه متحيز لهتلر مثل الثور المعصوب العينين، وان المتخصصين يشكّون في نزاهته ويتهمونه بتشويه الحقائق وطيّ الوثائق لخدمة اغراضه". وتذكر المؤلفة أيضاً عنه انه وصف نفسه "بأنه فاشستي معتدل"، وان بريطانيا، في رأيه، "تردّت في وهدة التدهور السريع والانحطاط المضطرد نتيجة قرارها الطائش بالدخول في حرب مع المانيا النازية". ولم يشأ إيرفنغ وهو المؤرخ المتخصص بمعالجة الأحداث التاريخية التي أفضت الى نشوب الحرب العالمية الثانية وما تلاها، والمؤلف الكاتب الذي نشر أكثر من ثلاثين كتاباً، أن يفوّت التشهير الشخصي بحقه الذي تضمنه كتاب ديبوراه. فرفع قضية على المؤلفة ودار النشر، اتهمهما بالتشهير بشخصه ومحاولة تدمير سمعته كمؤرخ وطالبهما بتعويض. وهذا هو مضمون الكتاب الثالث الذي لخصه عوض وكان الجزء الثالث والأخير من الكتاب. لقد بدأت المحكمة العليا في لندن برئاسة القاضي غراي النظر في القضية اعتباراً من 11 كانون ثاني يناير 2000، وانتهت من الاستماع الى المرافعات في 15 آذار مارس من العام نفسه. هذا وقد رد المدعى عليهما ردوداً مطولة على اتهامات إيرفنغ تناولت معظم ما طرحه وما اجتهده عن هتلر والهولوكوست ومجريات الحرب العالمية الثانية. وجاء في أقوالهما "انهما لا يقبلان الذي يفرضه إيرفنغ على الفقرات مصدر الشكوى، كما انهما يؤكدان أن سمعته كمؤرخ أصابها ضرر من جراء إنكاره الهولوكوست واستمراره في تشويه سجل التاريخ بهدف تصوير هتلر على نحو محبب للنفس. وبالفعل اصدر القاضي غراي حكمه في صالح المدعى عليهما، بناء على خلاصة جاء فيها ان إيرفنغ "اعترف بأن هتلر كان يعرف ما يحدث وكان موافقاً عليه، لكنه أكد أن مثل هذه المعلومات لم تكن قد تكشفت بعد في الوقت الذي كتب فيه عن اسلوب معاملة اليهود في شرق أوروبا، مضيفاً ان المادة البحثية المتوافرة آنذاك لم تكن تدين هتلر أو تثبت ضلوعه وتورطه في ما حدث". وبعد... لا شك في أن هذا الكتاب وعلى رغم السرعة التي واكبت نشره، والأخطاء الطباعية التي احتواها، جاء في وقته المناسب. إذ أن مجزرة ما زالت مستمرة بحق الفلسطينيين ووطنهم، يسقط بسببها كل يوم عشرات الضحايا، ويتم تدمير وذبح عشرات البيوت والشجر والثمر من جرائها، يرتكبها ضحايا الهولوكوست النازي الذين أقاموا دولة على أرض فلسطين والفلسطينيين، كما يمارسون إرهاب الدولة في حق اناس كل جريمتهم الدفاع عن وجودهم وحياتهم. فلماذا يقلّد الضحايا ما فعله بهم الجلاد؟!