جوهر الجدل الدائر حالياً في اوساط الشعب الاندونيسي على مختلف تصنيفاته، الفئوية السياسية وحتى الطبقية الاجتماعية، هو ما اذا كان انتخاب الرئيس الجديد سوسيلو بامبنغ يوديونو سيفتتح حقبة جديدة في تاريخ البلاد. ويبدو هذا الجدل منطقياً في ظل رغبة الشعب في احداث تغيير حقيقي في حياته العامة والخاصة، ولكلا الفريقين المتفائلين والمتشائمين في احداث هذا التغيير ما يبرره ويدعم منطقه. ولكن الجميع يرجون حدوث هذا التغيير. والحكم على امكان فتح بوابة مرحلة جديدة يبقى رهناً بقدرة يوديونو على التعامل مع عدد من الملفات مثل دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية، والعلاقة مع واشنطن، ومعالجة الازمات المحلية، والتعامل مع ظاهرة الارهاب، والعلاقة مع الحركات الاسلامية الواسعة الحضور في الشارع الاندونيسي. الجنرال ام الوزير؟ اصبح سوسيلو بامبنغ يوديونو 55 عاماً، الرئيس السادس لاندونيسيا التي استقلت عام 1945، والاول الذي يصعد الى كرسي الحكم عبر صناديق الاقتراع المباشر، وليس عبر صفقات السياسيين تحت قبة البرلمان كما حصل مع سلفيه عبدالرحمن واحد وميغاواتي سوكارنو بوتري، وهو ثاني رئيس خرج من رحم المؤسسة العسكرية بعد سوهارتو الذي حكم 35 عاماً حكماً عسكرياً ديكتاتورياً، ولذلك تثير الخلفية العسكرية للرئيس الجديد مخاوف الكثيرين من تسلل الجيش من جديد الى توجيه القصر وسياسات الدولة، بعدما سلب هذا الدور بسقوط نظام سوهارتو عام 1998، واكتمل خروجه من اللعبة السياسية بعد اقرار تعديلات دستورية هذا العام حرمته من المقاعد التي كانت مخصصة له في مجلس الشعب الاستشاري، اعلى السلطات السياسية في البلاد، ومنعت العسكريين من الاقتراع في الانتخابات البرلمانية والرئاسية. وعلى رغم خروج يوديونو من الحياة العسكرية كجنرال، واندماجه في الحياة السياسية كوزير منسق لشؤون الامن والسياسة في حكومتي عبدالرحمن واحد وميغاواتي، وتأسيسه حزباً سياسياً قبيل الانتخابات البرلمانية في نيسان ابريل الماضي، واستطاع ان يحقق نجاحاً باهراً ومفاجئاً للجميع في الانتخابات البرلمانية والرئاسية على حد سواء، الا ان صفة الجنرال السابق بقيت ملاصقة له وسابقة لاسمه عند التعريف به. ولا يزال الجدل ساخناً حول تغليب عسكرية الرجل على مدنيته وسياسيته او العكس، وهل سيحكم بعقلية الجنرال ام الوزير؟. بامبنغ هاريومورتي رئيس تحرير مجلة "تمبو"، كبرى المجلات الاندونيسية، يعتقد بأن اندونيسيا دخلت حقبة الديموقراطية ولن تتراجع عنها، والانتخابات البرلمانية والرئاسية الاخيرة خير دليل على ذلك، ولا يرى في كون الرئيس جنرالاً سابقاً ما دام انه ارتضى قواعد اللعبة السياسية، لكن ما يخشاه هو النكوص عن الممارسة الديموقراطية سواء كان ذلك على يد جنرال سابق مثل يوديونو او مدنية مثل ميغاواتي. وكانت المحكمة حكمت على بامبنغ هاريومورتي بالسجن مدة عام بسبب مقال نشره في مجلة "تمبو"، التي يترأس تحريرها، بانتظار الحكم النهائي بعد الاستئناف، وهي الحال الاولى التي تقف فيها الصحافة امام القضاء منذ سقوط نظام سوهارتو. وهذا لا ينفي ان الجيش كان وسيبقى المؤسسة الاكثر نفوذاً في نهاية المطاف، وستبقى لها كلمتها الفصل في الازمات الكبرى ان عجز السياسيون عن حسمها، لكن تجريد الجيش من الحضور المباشر في اروقة السياسة سيحد من سطوته في الشأن السياسي وسيبعده عن الواجهة فقط. النسبة الكبيرة التي فاز بها يوديونو 60.6 في المئة كانت بمثابة تفويض شعبي مطلق له لمواجهة كومة الازمات التي عجز رؤساء مرحلة الاصلاح الاولى، عبدالرحمن واحد وميغاواتي، عن حسمها او التخفيف من وطأتها، ولذلك التقط يوديونو خيط الرغبة الشعبية هذه، فوعد في تصريحاته من ظهور بوادر فوزه، باعطاء الاولوية خلال المئة يوم الاولى لحل ازمات الحركات الانفصالية بدءاً من اقليم آتشي ثم في اريان جايا ومولوكو وسيلاواسي، وفتح باب الحوار مع كل طبقات المجتمع الاندونيسي ومكوناته. والى جانب ملف الحركات الانفصالية، ينتظر يوديونو الملفات الاقتصادية، وأولها معيشة المواطن اليومية، ومعدلات الدخل المتدنية، وانخفاض قيمة الروبية وقوتها الشرائية، وسيواجه في يومه الاول مشكلة قرار البرلمان السابق الذي اتخذه في ايامه الاخيرة برفع سعر المحروقات بسبب ارتفاع اسعار النفط دولياً، وهي المشكلة التي ادت الى سقوط نظام سوهارتو بعد تحريك تظاهرات شعبية ضخمة، مع الفارق في مدى تقبل الشعب للرئيسين، لكنها تبقى ازمة قد يصطدم فيها يوديونو مع طموح الشعب في يومه الاول. ويأمل المراقبون ان يكون لنائبه يوسف كالا، الاقتصادي ورجل الاعمال الناجح الذي كان يشغل منصب الوزير المنسق لشؤون التنمية والرفاه الاجتماعي في حكومة ميغاواتي، دور بارز في معالجة الازمات الاقتصادية، ويرشح من مصادر مقربة من يوديونو ان حكومته المرتقبة سيكثر فيها خبراء الاقتصاد والتنمية لهذا الغرض. الا ان المشكلات الاقتصادية تبقى عصية على الاصلاح ما لم يتم معالجة المشكلة الاعقد وهي مشكلة الفساد المالي والاداري المتجذرة في مؤسسات الدولة، حيث تصنف اندونيسيا على انها الدولة السادسة الاكثر فساداً في العالم، وبالطبع ليس من الممكن اجتثاث مثل هذا الوباء في عهد حكومة او اثنتين، لكن ما يرجوه الشعب هو البدء في عملية العلاج. أما مشكلة الارهاب التي باتت احدى اكثر الملفات اقلاقاً للحكومات المتعاقبة، فإن يوديونو هو فارس هذا الميدان بلا منازع، اذ سجل نجاحات كبيرة في ملاحقة المتورطين في التفجيرات التي ضربت بالي وفندق ماريوت، حين كان وزيراً للامن في حكومة ميغاواتي، وسيكون اقدر على متابعة هذا الملف بعد القبض على كامل السلطة التنفيذية. العلاقة مع واشنطن ويثير تلقي يوديونو تعليمه ودورات تدريبية عدة في الاكاديميات العسكرية الاميركية مخاوف البعض من ان تصبح اليد الاميركية اطول وأشد تأثيراً في اندونيسيا، وهو اذ لا ينكر علاقته الايجابية بواشنطن، فإنه وجمهوراً واسعاً في الشارع الاندونيسي يرون في ذلك مبرراً لتحقيق مكتسبات سياسية واقتصادية تحتاجها البلاد الى تحقيق الاصلاح المنشود على مختلف المستويات والقطاعات. واذا كانت العلاقة مع الولاياتالمتحدة تعتبر قضية حساسة لدى القطاعات المثقفة والمسيّسة، او لدى بعضها على الاقل، فإنها لدى رجل الشارع العادي، وهو الذي يشكل القطاع الاوسع من الشعب، لا يعير هذه القضية كثير اهتمام، ولا يرى في الولاياتالمتحدة الرجس الواجب الابتعاد عنه. الموقف من الاسلاميين وعند الحديث عن مكافحة الارهاب يقفز الى ذهن المتابع للشأن الاندونيسي الحركات الاسلامية، وكأنها جميعاً تتعاطى الارهاب، او منهج التغيير بالعنف، وهو انطباع غير صحيح بالمرة، فعلى العكس تماماً، تكاد الحركات التي تتبنى منهج العنف لا تمثل نسبة تذكر في وسط التيار الاسلامي، وان كانت اعلى صوتاً، بسبب تركيز الاعلام عليها، وبخاصة الاعلام الغربي. ولذلك فإن قانون مكافحة الارهاب الذي وعد يوديونو بتفعيله لاستئصال الظاهرة، لن يطاول سوى العناصر القليلة مما يسمى "الجماعة الاسلامية"، ان وجدت. اما بقية فصائل التيار الاسلامي التي تتوزع بين المعتدلة والمفرطة في الاعتدال، فإن معظمها تحالف مع يوديونو في الانتخابات الاخيرة، ويشكل معه كتلة واحدة تحت قبة البرلمان، مثل حزب "العدالة والرفاه" بقيادة هدايت نور واحد، و"حزب التنمية المتحد" بقيادة حمزة هاس نائب ميغاواتي، والذي انضم أخيراً الى الكتلة البرلمانية المؤيدة ليوديونو، وحزب النهضة بقيادة علوي شهاب الجناح السياسي لحركة نهضة العلماء كبرى التجمعات الاسلامية. ويحظى يوديونو بدعم حزب الامانة بقيادة امين رئيس وان لم يدخل في كتلته البرلمانية. وبالتالي فإن معظم تحالف يوديونو يقوم على احزاب اسلامية، اذ لم تمنعه علمانيته من الالتقاء مع الاحزاب الاسلامية على برامج وطنية واصلاحية مشتركة، كما ان الاحزاب الاسلامية لم تر فيه ما يشكل خطراً على الحال الاسلامية للبلاد. ولا يشكل برنامج يوديونو لمكافحة الارهاب نقطة خلاف مع هذه الاحزاب، كما عبر عن ذلك انيس متى الامين العام لحزب "العدالة والرفاه" الاسلامي بقوله: "سندعم جهود يديونو لمكافحة الارهاب ما دامت في اطار القانون والدستور". بايجاز مرت اندونيسيا بثلاث مراحل، الاولى مرحلة سوكارنو وهي مرحلة التأسيس، والثانية مرحلة سوهارتو التي عرفت بالنظام الجديد، ثم مرحلة الاصلاح التي بدأت بسقوط نظام سوهارتو وعادت فيها الديموقراطية الى الحياة العامة وان لم يتحقق اصلاح فعلي على المستوى الاقتصادي والازمات الكبرى مثل الفساد والحركات الانفصالية. واليوم يأمل الاندونيسيون ان تبدأ المرحلة الرابعة وهي مرحلة الاصلاح الحقيقي والتنمية، ويمكن تلخيص التوقعات الواعية لهذه المرحلة بمقولة بامبنغ هاريومورتي "ان الشعب يأمل من يوديونو ان يحقق تغييراً تدريجياً ولا يتوقع منه ان يحدث انقلاباً شاملاً".