أنا أفكر إذاً أنا موجود - هذا هو الكوجيتو الفلسفي الذي لا أزال أذكره عندما تعلقت في مطلع الشباب بالفلسفة - ولكنني لم أعد متأكداً من قائله: أهو ديكارت أو كير كغارد الدنماركي أو سارتر الفرنسي! على كل حال ليس هذا هو موضوعنا - فموضوعنا هو حماتي أو امرأة عمي كما أحب أن أناديها حيث أحس أن كلمة "حماة" تحمل بعض الإيماءات السلبية خصوصاً ان الأفلام المصرية التي شاهدنا المئات منها ترسم صورة ليست ودودة بين الحماة وزوج ابنتها والتي تفترض هذه الأفلام أنهما في صراع دائم... وأيضاً، فالموضوع ليس حماتي وإنما الكوجيتو التي ابتكرته، هكذا بعفوية بالغة من دون أن تعرف أي شيء عن ديكارت أو سارتر ... فهي ليست إلا امرأة عجوز ريفية لم تتح لها الفرصة لفك الحرف في أي وقت من الأوقات... وعلى الدوام، ومنذ ان تزوجت ابنتها قبل أكثر من عشرين عاماً، فإن علاقتنا كانت ودودة للغاية ولم يصدف أن اصطدمنا أو اختلفنا حول أي أمر من الأمور. وهنا لا بد من الاعتراف أن وجودي مع زوجتي في عمان على حين أنها أي حماتي تقيم في بيروت ساعد ولا بد، في تقليص فرص الاحتكاك، إذ أنني لا أراها إلا كل بضع سنوات. و أثناء ذلك فأننا نتصل بها تلفونياً بين وقت وآخر... تبدأ زوجتي المكالمة وعندما تكون حماتي على الخط الآخر فإنها تبادر من دون مقدمات عن السؤال عني بإلحاح الأمر الذي يغيظ زوجتي دائماً. فهي تفترض أن تسلم عليها وأن تسألها عن أحوالها أولاً طالما هي لا أنا على الخط... لكنني اكتشفت أنها تفعل الشيء نفسه مع بقية أزواج بناتها الخمس. إذ في مناسبات مشابهة تبادر بالسؤال عن أزواجهن قبل السؤال عنهن، هنا أحسست أن مكانتي عندها قد نزلت خطوة واحدة على الأقل... ومع ذلك فلا نزال نتبادل الود والمحبة... كانت الأمور تسير في هذا الشكل إلى أن توفي عمي أبو زوجتي قبل ثلاث سنوات. الأمر الذي كان له وقع شديد على حماتي التي أحست بفقد زوجها أنها فقدت شبكة الأمان والمظلة التي كانت تظلل أيامها... وهي قالت لي عندما ذهبنا لزيارتها في بيروت قبل بعض الوقت بأن ما يعزيها هي أنها ذاهبة لرؤيته - ولكنها لا تتعجل الأمور فكل شيء بأوانه إلى أن يأمر الله بأخذ وديعته... كانت تتجلد بانتظار اللقاء الموعود مع الراحل العزيز، ولكن صحتها تدهورت إذ هجمت عليها شتى الأمراض، الضغط، السكري، وعملية في القلب وإصابة في إحدى ساقيها جعلت حركتها صعبة ومحدودة. وهنا يكمن لب المشكلة، إذ إنها من ذلك النوع من النساء الذي لا يتوقف عن الحركة ليل نهار، حاملة هم الجميع - أولادها وزوجاتهم وأبناؤهم وبناتهم، تتفقدهم واحداً واحداً على مدار الساعة من دون كلل أو ملل... تتحرك في أنحاء البيت وتذهب إلى السوق المجاور فتشتري لوازم البيت. ثم تكنس البيت مرتين أو ثلاث في اليوم. وقالت لي زوجتي بأنها تقوم أحياناً بكنس الشارع المجاور للبيت. الأمر الذي يثلج قلوب عاملي النظافة الذين يشيدون بها متمنين لو أن نساء الشارع جميعهن بهذا النشاط والأريحية... هنا المشكلة... فالمرض أقعدها تقريباً عن الحركة وفرض عليها إقامة شبه دائمة في ركنها الأثير في الصالون حيث يتاح لها أن تتحدث مع القادمين والذاهبين من بيتها والذي هو في الواقع مضافة أكثر من بيت للإقامة والسكن... وفي آخر زيارة لها ولبيروت قررنا أن نذهب إلى ضيعتها في أقصى الجنوب اللبناني، وحماتي تعشق بيتها هذا، ولكن بسبب وضعها الصحي فهي لا تستطيع الذهاب إلى هناك إلا أياماً قليلة تكون خلالها تحت رقابة مشددة لئلا تتحرك فتسقط وتؤذي نفسها... زوجتي أيضاً كانت راغبة في أن أرى ضيعتها ولكن بسبب سلسلة الحروب التي حدثت هناك خلال العشرين سنة الماضية فأنني لم أستطع الذهاب إلى هناك... و لكن ها هي الفرصة تتهيأ بعد هذه السنوات الطويلة... شددنا الرحال إلى الضيعة وتوصيات الجميع تؤكد علينا أن نراقبها بدقة وألا نجعلها تعمل أي شيء... بالنسبة إلي فقد كانت فرصة أن أرى الجنوب اللبناني مجدداً... بوابة فاطمة التي استحوذت على الأخبار وبخاصة بعد انسحاب إسرائيل المفاجئ... معتقل الخيام الشهير، قلعة الشقيف التي لا تزال تجثم على قمة جبل شاهق العلو... لكن محطمة تماماً أو تكاد بفعل القصف الإسرائيلي... وصلنا إلى الضيعة وهي ضيعة شبعا التي يقترن اسمها بمزارع شبعا المتصارع عليها حتى الآن... أجلسنا حماتي في مكانها الذي حددته لنا وبدأت زوجتي بتنظيف المكان وهي تلح على أمها ألا تكلف خاطرها بأي شيء... فسنعمل كل شيء... وليس مطلوباً منها أن تقوم بأي حركة... فكانت تتظاهر بالموافقة على مضض - كيف لا ومبرر وجودها كانت الحركة الدائمة التي لا تهدأ... فما الذي يبقى لها إذا حرمت من مبرر وجودها ذاته! ولذلك، وكسجين أتيحت له الفرصة للهرب، فقد استغلت غياب زوجتي عن أنظارها فحملت سطل الغسيل وأرادت أن تدلقه أسفل درج البيت الذي يمتد متعرجاً نزولاً إلى الشارع... وبعد أن قطعت الجزء الأول من الدرج من دون أن ندري سمعت صرخة زوجتي ونظرت من الفرندة ووجدت حماتي مكوّمة أسفل الدرج والدماء الغزيرة تسيل من وجهها بغزارة... وبعد ارتباك واتصالات هنا وهناك نقلناها إلى المستشفى في صيدا وحالتها حالة... والآن وبعد أن عدت إلى عمان أفكر في ما حدث لحماتي وأضحك على رغم أنفي إذ أن شر البلية ما يضحك... ولكن كوني من فئة الذين يحبون أن يرشوا على الموت سكراً، فقد وجدت حكمة في ما حدث مفلسفاً الأمر بأنه حتى داخل المصيبة فلا بد من أن تعثر على شيء إيجابي... وبالفعل عثرت على هذا الشيء عندما فكرت أن حماتي أضافت كوجيتو فلسفي جديد من دون أن تدري... الكوجيتو القديم يقول: أنا أفكر إذاً أنا موجود. أما كوجيتو حماتي الجديد فيقول : أنا أحرك "بتسكين الحاء وضم الراء"... إذاً أنا موجودة !