يخطئ جورج بوش وجون كيري اذ يجعلان التنصل من ياسر عرفات، حاضراً ومستقبلاً، احدى مزاودات المنافسة الرئاسية. وهما يخطآن تبعاً لتلك البديهية التي لا يحول ابتذالها دون صحتها، والقائلة ان"السياسة فن الممكن". فالايديولوجيون وحدهم هم الذين يفترضون ان السياسة فن المستحيل، فلا يعبأون بواقع أو بمعطى أو برأي أو بتوازن قوى على الأرض. والحال انه يصعب على المرء ان يمارس الإعجاب بياسر عرفات من دون أن يلوي الحقائق فيدوّر المربعات ويربّع الدوائر. مع هذا، يُستحسن ألا نستبعد تماماً انبعاث"الختيار"المحاصَر على هيئة شاب يتصابى. وهذا، بالضبط، لأن عرفات هو الممكن السياسي الفلسطيني، وهو ممكن منخفض جعلته الهجمة الوحشية للجيش الاسرائيلي أشد انخفاضاً. فإذا ما قُيّض للموضوع الفلسطيني أن يحظى، بعد الانتخابات الأميركية، ببعض الاهتمام، ترافق انبعاث الموضوع مع انبعاث"ممثله الشرعي الوحيد". وهذه سيرورة تنهض على عملية حسابية لا بد أن تخامر جون كيري إذا ما انتخب رئيساً، لكنها أيضاً لا بد أن تراود جورج بوش نفسه، على رغم ما يقولانه اليوم. أما عكس ذلك فمعناه الأوحد ان دوف فايسغلاس وأمثاله أصبحوا يحرزون اليد العليا في رسم السياسة الخارجية الأميركية. وهذا، على رغم كل شيء، صعب. وفي العملية الحسابية ان صيغة محمود عباس أبو مازن آلت الى الإخفاق، فيما صيغة أحمد قريع قليلة الثمر اإن لم تكن جديبة. وقد يقال بحق ان أصابع عرفات، وأصابع شارون كذلك، تركت بصماتها على الاخفاقات. لكن هذا لا يغير في ان الزعيم الفلسطيني لا يزال، كما أورد استقصاء"المركز الفلسطيني لاستطلاع الرأي"، الزعيم الأكثر شعبية في شعبه. اما منافسوه فيتخلّفون عنه في الشعبية بنسب هائلة، فيما صاحب الشعبية الأقرب اليه، مروان البرغوثي، ليس منافساً له، إلا انه يبزّه راديكالية... هو المتهم بالارهاب الذي أدى به الى السجن. وهناك ما يسمح بالقول ان عرفات اليوم غيره قبل عامين. فالهزيمة، هذه المرة، ليست من النوع القابل للتجريد على ما كانت الحال في 1967 وقبلها في 1948. فهي، الآن، هزيمة شخصية وشفافة ومباشرة لا مكان معها لتحويل الهزيمة انتصاراً، أو لإعادة تدويرها في السياسة على ما حصل بعد غزو 1982 لبيروت. وهذا يعني ان السلوك الذي كان يشتكي منه الاميركيون والاسرائيليون، بغض النظر عن مدى صدقه ودقته، ليس مرشحاً للتكرار. في المقابل، فانهيار عرفات الكامل يفتح الأبواب كلها ل"حماس"، وكم يبدو مقلقاً تردي السلطة الفلسطينية الراهن الذي لا يضع"حماس"وحدها في الواجهة، بل عدداً لا حصر له من الأجهزة والولاءات والعصبيات الكفيلة بإحراق كل شيء، مع ترشيح النشاط الارهابي لتناسل بلا ضوابط. وحتى لو صحت التهم الموجهة الى الرئيس الفلسطيني بالارهاب، يبقى ذلك من النوع الناعم، إذا صح التعبير، قياساً بالأعمال الوحشية التي نشاهد بعضها والتي قد تصير القاعدة العامة في المنطقة ما لم تُستدرك بسياسة الممكن. فالارهاب المتهم به عرفات قد يكون شبيهاً بذاك الذي اتبعه كثير من الحركات الاستقلالية مثل"الجيش الجهوري الايرلندي"الذي باتت أداته السياسية،"شين فين"، طرفاً شرعياً. ولئن ضلع مناحيم بيغن واسحق شامير في نشاط كهذا، يبقى أن نفور الحالة الفلسطينية ناشئ عن الزمن نفسه لا عن الفرادة: ففضلاً عن مناخ ما بعد 11/9، يمارس الفلسطينيون الارهاب بعد نجاح الغالبية العظمى من حركات التحرر في نيل الاستقلال لبلدانها، بحيث أضحى السلوك نفسه يتبدى فريداً بلا مثيل. والحال ان الولاياتالمتحدة، مهما تعامت، لا بد أن تتنبه الى الفارق بين عرفات وبين الآخرين، والى أن معالجة النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي غدا مما لا مهرب منه لمصلحتها وصورتها وأمنها في آن. وقد يقال، بأسف، انه كان حرياً بالفلسطينيين، في ظل المأساة التي يعيشونها، ان ينتجوا قيادة أرقى من أبو عمار. لكن ألا يصح الشيء نفسه في الاسرائيليين باختيارهم شارون؟ بلا ألا يصح في شعب لم تكن المأساة قد مسّته حين اختار جورج دبليو بوش؟