جورج بوش يهوى الترشيق. بدأ بموظفيه الذين يريدهم مثله: مثله في الجسم فقط. لحسن الحظ. وهذا ربما كان من تأثير نزعات التطهير البيوريتاني: طهّروا الزوائد بالاستئصال. لكن الترشيق وصل على يديه إلى... الشرق الأوسط. بالغ اذ طالب الفلسطينيين، والعرب والعالم، بالديموقراطية والاصلاح والسلام دفعة واحدة. والفلسطينيون والعرب لا بد أن يخوضوا طويلاً في الزمن، وفي مصارعة النفس، كيما ينجزوا واحداً من هذه الأهداف. الأهداف عظيمة حقاً لكنها لا تؤتى بالضد من أصحابها "كلهم"، وفي سياق يبدو لهؤلاء الكل ضدياً. المهمة ثورية: فلسطين بلا عرفات. سورية من دون منظمات. هكذا بين ليلة وضحاها. لبنان من دون حزب الله. هكذا أيضاً. ومثل الثوريين الذين يطالبون الشعوب بكذا وكذا ويفرضون عليها اصلاحات راديكالية، لم يتقدم جورج بوش بآلية عملية للتنفيذ. ببرنامج زمني. بضمانات لتفكيك الاحتلال تسير في موازاة التعديلات الضخمة المطلوبة من الفلسطينيين والتي من دونها لن يحصل شيء. شيء على الاطلاق. كذلك لم يُشر الرئيس الى مؤتمر، أو حتى "لقاء"، حول الشرق الأوسط: أي، لم يأخذ الاعتدال العربي والعالمي في حسبانه. ولم يأت بتعهّد واضح وصريح، ولو مبدئي ونظري، من إدارة شارون بأنها مع السلام المؤسس على دولتين. حتى اليسار الاسرائيلي والقوى المؤيدة للسلام زادها خطاب بوش إضعافاً: إذ هل يجوز أن يبدو الأميركي أكثر إسرائيلية من الإسرائيليين؟ إن في الأمر، والحال هذه، شبهة "خيانة". مقلق هذا كله دفعة واحدة، ومن دون تنسيق مع أوروبا وروسيا والأمم المتحدة. فقط التنسيق مع شارون. مقلق وخطير لكنه قابل للفرض. آلية تنفيذه من نوع آخر: مثلاً، بعد أسبوع سينعقد مؤتمر الدول الثماني في كندا: في وسع بوش أن يضغط على حلفائه كي يضغطوا على الفلسطينيين. هذا فضلاً عن ضغط الولاياتالمتحدة نفسها. لا بل: دعك من الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين...، تُقدّر خسائر بلدان "أوبك" ب15 بليون دولار من جراء تراجع سعر صرف الدولار، عملة تسعير النفط. لا بل: إيران، بعد كارثة الزلزال الأخيرة، لا تمانع في تلقي معونات "الشيطان الأكبر"! ولأن ياسر عرفات يعرف حجم الهزيمة وحجم المدى الذي يمكن أن تصل اليه، امتدح كلاماً يهجوه. وهو ما فعله حكام البلدان العربية الأخرى. وهذا دليل لا يخطىء على "صحة" ما تقوله المنظمات الانتحارية، والدول القليلة التي وراءها، من أننا "انتصرنا" و"ننتصر". والحال أن هزيمة هؤلاء ليست عسكرية وسياسية وأخلاقية فحسب. انها أيضاً ثقافية. فالأمل الوحيد اليوم بنجاة السلطة الفلسطينية هو في الانتخابات: الانتخابات التي أُعلن عن النية في اجرائها في ظل رقابة دولية. هذا وحده يمكن ان يكبح بوش بغض النظر عما اذا كان يقصد عرفات "شخصياً" أم لا. فالانتخابات، تلك الوسيلة الغربية، هي التي ستعلن تمسك الفلسطينيينبعرفات. لماذا؟ لأن من يصوّت بوش ضده يصوّت المقترعون له. وهذه نقيصة في الأول من دون أن تكون، بالضرورة، فضيلة في الآخرين. لكن سيد البيت الأبيض، وكائناً ما كان، سيُضطر الى التعامل مع النتيجة كأمر واقع. على أي حال، المهم أن نجيد لعبة الديموقراطية، ونقاوم الإرهاب، ونحتفظ بكراهية بوش في قلوبنا. لعل وعسى...