ما الذي يحدث حين يكون المرء وسط عالم من العنف؟ ماذا لو رفض الإنسان أن يبقى أسيراً للعنف الذي يحيطه وهو تحت الحصار لا بل تحت الاحتلال؟ ماذا عن ثقافة الموت؟ هذه بعض من أسئلة تطرحها تهاني راشد في فيلمها الأخير "سوريدا امرأة من فلسطين" الذي عرض أخيراً في مهرجان "أيام بيروت السينمائية" بعد عرضه في مهرجان الاسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة، وتحاول المخرجة الاجابة عنها من خلال "سوريدا" تلك المرأة الفلسطينية المكافحة التي بمجرد أن جلست معها لدقائق عرفت أنها ستكون الشخصية الرئيسية في فيلمها الجديد عن نساء في زمن الحرب. وبالفعل، في كل مرة كانت تهاني راشد تلتقي المزيد من الشخصيات الفلسطينية في رام الله، كانت كل واحدة منهن ترجعها الى سوريدا، وفي كل مرة يأتونها بشخصية جديدة كانت تتأكد أن "سوريدا هي الخيار الصحيح"، وهكذا كان، دخلت المخرجة في قلب حياة امرأة من فلسطين، صورت أحزانها وأفراحها، شكوكها وترددها، عرّفتنا على نمط تفكيرها، الصراع الذي تعيشه والتناقضات التي تختزنها، تعرفنا على عائلتها، زوجها، أولادها وجيرانها... فما الذي جذبها اليها؟ كيف اكتشفتها وكيف اشتغلت معها على الفيلم؟ تقول تهاني: "صدفة تعرفت الى سوريدا من خلال أحد الاصدقاء، وبمجرد أن بدأت الحديث، شعرت بصدقها وعفويتها والعمق الذي تظهره بأسئلتها. قابلت الكثيرات ولم أقتنع إلا بها. أما أكثر ما احببته فيها فهو طريقتها بالتفكير بصوت مرتفع بلا أي خجل من الكاميرا أو من الناس الذين من حولها. وهنا تتجلى أهميتها إذ لا نصادف الا قليلاً من الناس الذين يملكون الجرأة والكرامة للتفكير امام الناس... على الملأ. والحال، لم يكن صعباً على الاطلاق التعامل مع سوريدا ذلك أنه بمجرد أن تكتشف شخصيتها حتى يصبح العمل معها سهلاً. والأهم انه في كل مرة تبدأ واجباتها المنزلية من غسيل وجلي وتنظيف، تفرج عما في داخلها وتطرح شكوكها ومخاوفها. وهذا هو بالضبط عملي، بمعنى أن اكتشف الوقت الذي تكون فيه مرتاحة لتعطي كل ما عندها، وأن اخلق عامل ثقة بيننا لتذهب الى أقصى الحدود في الكلام. وهذا ما اقوم به مع كل شخصياتي، حتى انني لأطمئنهم اكثر أعطيهم القدرة على حذف ما لا يرغبون في ظهوره على الشاشة، الأمر الذي يريحهم جداً، إذ يفهمون أنني لن أسرق كلامهم ولن استعمله ضدهم. من هنا أنا لا ادير شخصياتي كيفما أريد انما أتركها للارتجال. سوريدا امرأة مدهشة كونها تحوي كل تلك التناقضات، من جهة هي مرتبطة بشعبها ارتباطاً عضوياً، و من جهة اخرى لا تخشى من الصراخ بصوت مرتفع: أريد أن أعيش". المرأة دائماً على رغم أنها بدأت العمل السينمائي منذ عام 1972 الا أن اسم تهاني راشد لم يعرف في الوسط الفني قبل عام 1997 وتحديداً مع فيلم "أربع نساء من مصر". في هذا الفيلم أرادت تهاني عملاً مميزاً يدور حول تعايش الافكار المختلفة ونجحت بذلك من خلال أربع شخصيات خدمت العمل أكثر ما يكون. كان هذا الفيلم "أول ما عرض لي في العالم العربي، إذ قبلها عرضت أفلامي في الخارج ولم أكن أبداً على احتكاك مع الجمهور في بلادنا"، تقول تهاني وتتابع: "والحقيقة أنني لم اكن أتوقع كل تلك الضجة التي أحدثها الفيلم إذ لاقى رد فعل هائلاً عند الناس بعد أن وجدوا أنفسهم فيه وضحكوا كثيرا وعادوا بالتاريخ الى الوراء، فكان صداه كبيراً. أما قبل هذا العمل فحققت أفلاماً تسجيلية عدة: عن الهجرة في كندا، والمهجرين في لبنان ومرضى الايدز والكورس اضافة الى سلسلة أفلام للتلفزيون عن الجالية العربية في كندا...". في كل تلك الأفلام يلاحظ اما شبه غياب للرجل واما تسطيحاً وتهميشاً له... فهل هذا مرتبط بنضال نسوي؟ وهل ترى تهاني راشد أن المرأة أقدر من الرجل العربي على استشراف المستقبل وقول الصواب؟ "صحيح، دائماً المرأة هي الشخصية الرئيسية في أفلامي، فأنا امرأة ومن الطبيعي ان أشعر براحة اكبر مع النساء لأنني ارى المجتمع من خلال عيون المرأة: وجهة نظرها، كيف ترى الحياة؟ وما الذي تقوم به للتغيير في وسطها الاجتماعي؟... لكن هذا لا يعني أنني لهذا السبب لن أحقق الا أفلاماً عن النساء.. ومع هذا أجدني دائماً في النهاية لا أصور الا مع نساء، الى درجة انني حين قابلت رفعت زوج سوريدا، وكان ذلك قبل لقائي سوريدا، قلت له إن لم تجر مقابلتي مع سوريدا كما يجب فسأجعلك انت البطل بملابس نسائية. فالحديث مع النساء يحمل امكان أكبر ليتكلمن عن احاسيسهن. مع الرجال المسألة أصعب، على رغم أن ما اعترف به رفعت في الفيلم شجاع جداً، وفي نظري لا يوجد رجل في الغرب قادر على التكلم بالصدق ذاته. من جهة أخرى، باستطاعة المرأة ان تربط ما بين الداخل الشخصي والخارج الاجتماعي والسياسي الأمر الذي يمدنا بعمق التجربة الانسانية وهذا لا نجده عند الرجل". بعيداً من الروائية تهاني راشد التي اختارت المرأة دائما بطلة لأفلامها، اختارت أيضاً السينما التسجيلية وسيلة تعبير لها. لماذا وكيف كان هذا الاختيار؟ "منذ صغري، تقول تهاني، وأنا احلم بالعمل في الفن. في البداية رغبت أن أكون رسامة لذلك دخلت معهد الفنون الجميلة، لكنني لم اجد أن هذا هو مكاني الصحيح ثم انتقلت الى العمل الاجتماعي ولم اجد نفسي كذلك الى ان قادتني الصدفة الى عالم الاخراج وتحديداً الى عالم الأفلام التسجيلية التي تختلف كل الاختلاف عن الافلام الروائية. ذلك أن ما يميز الافلام التسجيلية هو الاحتكاك المباشر مع الناس، هذه المعلومات التي تضيفينها الى مخزونك، إذ أن أكثر ما يشدني هو تلك العلاقات الانسانية التي تمكن الانسان من تعلم المزيد عن الحياة... ولغاية الآن كل ما أردت التحدث عنه ساعدتني عليه السينما التسجيلية. أما السينما الروائية فلا بد من التعامل معها في شكل مختلف... هنا التعامل مع ممثلين لا بد من أن يؤثروا فيّ حتى اعمل معهم". لكن أليس من الأسهل التعامل مع محترفين على التعامل مع أشخاص عاديين؟ "أبداً، تقول تهاني راشد، بمجرد أن تجدي الشخصية التي تطمحين اليها في الفيلم التسجيلي تكونين قد خطيت أشواطاً كبيرة وهنا يأخذك العمل في الاتجاه المناسب. فالارتجال هو سيد الموقف والمخرج ليس أكثر من وسيلة بيد الشخصية الرئيسية في الفيلم لايصال أفكارها ومساعدتها على التعبير عنها". وفي النهاية نسأل: من هو الجمهور الذي تتوجه اليه تهاني راشد من خلال أفلامها؟ "أنا أول جمهور لأفلامي، تقول تهاني، إذ بمجرد أن تصل الشخصية الى قلبي أعرف حتماً انها ستصل الى أي كان في الدنيا بغض النظر عن الفرق في الثقافة أو اللغة. أما اذا كنت أفكر بجمهور معين وأنا أصنع الفيلم، فالجواب هو لا. إذ عندما اعمل على فيلم تسجيلي يأخذ مني سنتين من حياتي لا افكر الا بالضرورة من ورائه".