الخلل الرئيسي في اقبال القيادات العربية على مبادرات التأهيل والافصاح، بنماذجها المختلفة، ان المحرك الأساسي وراءها هو بقاء الأنظمة بأي حساب وعلى كل حساب. معظمها يفتقد الاهتمام بالبعد الداخلي أو الاقليمي وينكب على هوس تمسك النظام بالسلطة. بعض هذه المبادرات فيه قدر من الحكمة، وبعضها تعتريه البهلوانية. لكن جميع القيادات العربية تبدو غير قادرة على استيعاب أو فهم مركزية الشعوب في القرن الواحد والعشرين. لذلك تفوتها أهمية اتخاذ القاعدة الشعبية حليفاً في نقلة نوعية اصلاحية جذرية تتطلب من القيادات الاستعداد للتخلي عن السلطة. الادارة الاميركية التي باتت ملهماً أو "بعبعاً" للأنظمة العربية لن تتخذ أحداً منها صديقاً دائماً تضمن كرسيه مهما انصاع أو بادر. وما لم يقع انقلاب في فكر وذهن القيادات نحو العلاقة مع الشعوب، ستبقى لاستثماراتها الجديدة نكهة العفن. نماذج المبادرات مختلفة باختلاف المواقع من ليبيا الى السودان الى سورية الى العراق الى اليمن ودول منطقة الخليج ومصر وفلسطين وغيرها. جماعياً، تؤخذ قرارات على نسق قرار وزراء الداخلية العرب الأخير بادخال تعديلات على الاتفاقية العربية لمكافحة الارهاب تضمنت تجريم أعمال التحريض على الجرائم الارهابية وجرائم الانترنت. تجريم التحريض على الارهاب في محله وضروري. انما يجب أن ترافق هذه القرارات قوانين تضمن حرية التعبير وحرية العمل المهني وحرية تعدد الآراء لئلا تستخدم الحملة على الارهاب كوسيلة لحملة قمع للحريات. ثم متى اجتمع أو سيجتمع وزراء الداخلية العرب للاتفاق على قوانين تحمي الفرد العربي وتوضح ما له وما عليه؟ ثقافة التحريض ثقافة مؤذية إذا خلت من مسؤوليات مدنية وسياسية وأوقعت الناس فريسة المهاترات. انما ثقافة القمع التي تتبناها اكثرية الانظمة العربية مؤذية بالقدر نفسه، ان لم يكن أكثر، والانكى ان الشراكة العربية مع الولاياتالمتحدة ومع الأممالمتحدة في مكافحة الارهاب تستخدم كثيراً لتبرير القمع والتجاوزات للحقوق المدنية. انفرادياً، يهرول كثير من الدول العربية لإرضاء الإدارة الاميركية كي يصاحبها أو ترضى عليه أو تعفيه من مصير مماثل لمصير الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين. ولا بأس أبداً في اصلاحات وتوجهات عقلانية تأتي بالتغيير الضروري الى العالم العربي حتى وان كان قطارها اميركياً. فإذا أتى التغيير عبر "البعبع" الأميركي، خصوصاً في غياب العمل الداخلي الجدي للتغيير، ليصب في مصلحة الشعوب العربية، أهلاً به. المشكلة ان معظم القيادات المستعدة الآن للتغيير تفعل ذلك من أجل بقائها في السلطة أولاً وأخيراً. من الطبيعي أن يريد رجال السلطة البقاء في المناصب. فالسلطة ادمان. ولا عيب في انقلاب فكري وذهني لرجال السلطة يصحح أخطاء الماضي ويطلق انماطاً سيئة من الحكم والاستفراد والاستبداد. المهم ألا يتناسى الاصلاحيون الجدد أو المقبلون على التأهيل والافصاح العنصرين، الداخلي المحلي والاقليمي العربي، في عجلة الهرولة. السودان مثال على استعداد النظام لتقاسم السلطة، تجاوباً مع ضغوط اميركية ومساع افريقية ودولية، واستدراكاً لافرازات 11 أيلول سبتمبر 2001 ولمصير مشابه لمصير العراق. وحسناً فعلت الحكومة السودانية في موافقتها على تقاسم السلطة وفي سعيها الى نقل السودان من حرب أهلية الى بلد يسوده التعايش. الخلل في النموذج السوداني انه يفتقد البعد الاقليمي العربي في الحسابات الجديدة. بعض السودانيين يرى ذلك سياسة تفصل السودان عمداً عن بيئته العربية ضمن حسابات اميركية بعيدة المدى. بعضهم الآخر يرى في العجلة مغامرة على حساب مصالح الشمال "بحيث رفع الغبن عن طرف يؤدي الى غبن بالطرف الآخر". وهناك من يحذر من "تمرد الشمال" في حال عدم اصدار القوانين العادلة بحق القطاعات الشعبية حيث ان المرأة في الشمال مثلاً لن تكون لها الحقوق المشابهة للمرأة في جنوب السودان. لذلك، وبينما الاستعداد لتقاسم السلطة تطور ايجابي، يبقى التمسك بالسلطة اساساً جوهرياً في الحسابات. مثال ليبيا صريح جداً في معادلة السلطة. نجل العقيد معمر القذافي، سيف الاسلام القذافي، قال لصحيفة "صنداي تايمز" ان خلال الاتصالات مع حكومتي الولاياتالمتحدةوبريطانيا والأجهزة الاستخباراتية فيهما والتي أسفرت عن التغيير الجذري في منهج السياسات الليبية، طلب والده تأكيدات بأن لا تكون هناك أجندة سرية للضغط في اتجاه تغيير النظام في ليبيا، وما أن حصل على هذه التأكيدات، سار كل شيء الى الامام. قرار ليبيا التخلي عن أسلحة الدمار الشامل والسماح للمفتشين الدوليين بتدمير ما لديها من أسلحة محظورة قرار جيد وحكيم، لكن نقصه الوحيد انه جاء كمبادرة انفرادية. فلو جاء ضمن استراتيجية عربية متكاملة، لكان له مردود في الاطار الاقليمي، خصوصاً لجهة دفع اسرائيل نحو بعض الاعتراف والمقايضة وجرها من زاوية سياسة الصمت القاطع على ما تمتلكه من أسلحة نووية وكيماوية وبيولوجية بلا محاسبة لها على رفض توقيع معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية وبلا ضغوط عليها لوضع منشآتها تحت اشراف دولي. ليبيا اتخذت قرار الافتراق عن بيئتها العربية، وهي الآن تعرض استضافة القواعد الاميركية والبريطانية بعدما غاصت في البوح والافصاح عن مسيرتها النووية والنضالية والارهابية لأجهزة الاستخبارات البريطانية والأميركية. عذر الاستضافة، حسب سيف الاسلام القذافي، هو: "لقد تخلينا عن أسلحتنا ولهذا نحتاج الى مظلة دولية للحماية". بهلوانية قذافية نموذجية. من حق ليبيا ان توجه دعوة الى واشنطنولندن لاقامة قواعد على أراضيها، فهي بذلك لن تكون سبّاقة عربياً، فقطر تحولت الى قاعدة أميركية بريطانية قبيل وأثناء الحرب على العراق ولم يجادلها أحد. قررت ذلك لأنها اختارت موقعها بوضوح الى جانب القطب الأميركي وفي خدمته من دون اعتذار أو تبريرات. أما أن يكون العذر الليبي هو الحاجة الى "مظلة دولية للحماية"، فللتبرير نكهة النكتة ما لم يكن المقصود حماية النظام واستمراريته عبر تقديم ليبيا قاعدة لأميركا. تناول الحكومة الليبية لملف لوكربي أثناء القطيعة التامة مع واشنطن اتسم بكثير من الحنكة السياسية والاتزان والعقلانية. اما نجاح السياسة الليبية فجاء بفضل المجموعات الاقليمية، الافريقية اولا، ومجموعة عدم الانحياز، ثم لاحقاً وبدرجة أقل حسماً الجامعة العربية. فالعمل الديبلوماسي الجاد في استراتيجية متماسكة ادى الى تجميد العقوبات التي فرضها مجلس الأمن على ليبيا بسبب تورطها في تفجير طائرة بان أميركا فوق لوكربي. حتى "شراء" ليبيا رفع العقوبات عبر دفعها أموالاً ضخمة لأهالي الضحايا يمكن وصفه بأنه اجراء عملي. كذلك "بق" كل ما لديها من معلومات عن المنظمات التي تعاملت معها، مكافحة للارهاب، أمر مقبول به. لكن شراء الغفران عن ماضي النظام الليبي، من طريق توريط باكستان وعلمائها وهو الذي أنفق أربعين مليون دولار في محاولته الحصول على الطاقة النووية يكسب له صفة الخيانة خصوصاً ان الجيش الايرلندي الجمهوري سجل أحد السوابق الليبية في الوشاية والافشاء. سيف الاسلامي القذافي أبرز دوره الشخصي، نيابة عن أبيه، في المفاوضات في لندن، وقال: "كنت قادراً على نقل الرسائل الى والدي، وفي النهاية أقمنا علاقات جيدة مع الاستخبارات البريطانية ام اي 6 والاستخبارات الاميركية سي آي اي،" مقابل الحصول على تأكيدات بقاء الأب في السلطة. صراحته تستحق الاعجاب انما جوهر الموضوع، في نهاية المطاف، هو التمسك بالسلطة بأي حساب وعلى كل حساب. بريطانيا ستضمن بقاء النظام الليبي لأنها مدينة له، استخباراتياً بالذات في الملف الايرلندي. واشنطن ستستفيد موقتاً بلا وعود أو ضمانات. وما على النظام الليبي أن يدركه هو ان انقلابه المدهش على ماضيه يخلو من الانقلاب الضروري في الذهن والفكر، وإلا لاعتذر الى الشعب الليبي عن هدر أمواله وتدمير بنيته التحتية ولطلب الغفران عبر التنحي عن السلطة، أو على الأقل عبر ديموقراطية حقيقية بعيدة عن بهلوانية الجماهيرية وبدعها المتتالية. بين نموذج السودان ونموذج ليبيا ونموذج العراق تتخبط الحكومة السورية في طيات التقليد والتجديد المتضاربة بحثاً عن نموذج مميز. مشكلتها، كما غيرها في البقعة العربية، انها تنطلق في سياساتها من استمرارية النظام بصفته صمام الأمان لحفظ المصالح الوطنية. لذلك تقطّر الاصلاحات وتسير على الحبل المشدود بدلاً من الاقدام على مبادرات تستفيد من زخمها. التوجه السوري نحو تركيا تطور ضروري ومهم خصوصاً ان ما يحدث اليوم على الساحة العربية يؤكد التفتت والتشرذم وفك الأواصر بين الدول العربية بقرارات اميركية ومحلية. السودان وليبيا مجرد مثلين على ذلك. ما تحتاجه القيادة السورية يتعدى بكثير صوغ علاقة جديدة مع تركيا أو تعزيز علاقة مع ايران. عليها ان تختار "حليفاً" من القطبين الأميركي البريطاني، اذا أرادت "التأهيل" لديهما. وقد لا تريد. خيارها الآخر ينطلق من تحالف جدي مع القاعدة الشعبية ما يتطلب الجرأة على قرارات مدهشة، بعضها يصب في الساحة الداخلية السورية، وبعضها في الساحة اللبنانية، وبعضها مع اسرائيل. عليها الكف عن نمط "التقطير" في السياسات الخارجية وفي الاصلاحات الداخلية، ذلك ان المخاطر التي تهددها جدية وبالغة. والمنطق نفسه يطبق على أكثرية الدول العربية، بينها مصر والسعودية واليمن، وكذلك على السلطة الفلسطينية. صدام حسين ارتهن العراق من أجل النظام واعتبر المصلحة الوطنية في بقائه في السلطة. صدام حسين كان يوماً شريكاً رئيسياً للولايات المتحدة اثناء الحرب مع ايران. في الأمر أكثر من عبرة ولأكثر من طرف ونموذج.