آلاف الأغاني الوطنية التي استعمرت الأذن العراقية أكثر من ثلاثة عقود، هي خير أرشيف لكل الأحداث السياسية التي شهدها هذا البلد والمنطقة والعالم. ولعل دراستها لا تخلو من متعة: كلمات تتغنّى بالوطن والتراب والسماء والماء، وفي هذه الخلطة كان لا بد من وجود صدام حسين. أغنيات تربت على سماعها أجيال وأضحت بين يوم وآخر، أقراصاً مُسكّنة، إذ لا يمكنك أن توقف همس الشفاه المتسارع في ترديد الأغنية فور سماعها، وكأنك دخلت في نوبة تنويم مغناطيسي. ومن الظواهر الغريبة التي يشهدها العراق بعد سقوط النظام السابق، عودة الأغاني الوطنية ورواجها... أغان وثقت "النصر" في الحرب مع إيران ووثقت الموقف القومي العراقي، ووثقت "لحظات الصمود والشهادة"، بغض النظر عن أي شيء آخر! لماذا تنهض هذه الأغاني من جديد؟ وما التفسير المنطقي لهذه الظاهرة؟ وهل ستستمر؟ "أكثر من ثلاثين سنة، والجميع يسمع ويشاهد هذا النوع من الأغاني في العراق"، يقول الإعلامي تحسين ناصر، مضيفاً: "إن وسائل الإعلام في العراق تبث كل ما هو جديد أو قديم من هذه الأغاني، وتجري المقابلات مع مؤدي هذا النوع من الغناء. وأضحت حفلات الأعراس أيضاً ، لا تحلو إلا برقصات ودبكات تقام على أنغام آخر الأغاني الوطنية العراقية". وتشرح الكاتبة إجلال قادر هذه الظاهرة: "الحنين إلى هذا النوع من الأغاني في العراق، يعود إلى انقطاع طقس يومي كان يعيشه العراقيون، ونحن منذ شهور عدّة، لم نعد نسمع أية أغنية وطنية. والممنوع مرغوب". ويضيف سرمد الجادرجي، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة المستنصرية: "حالة عدم الإستقرار تساهم في دفع الناس الى ذلك الزمن. ليس هناك استيعاب لواقع الاحتلال من قبل الشعب العراقي. إنها حالة ضياع... لذلك تلجأ الجماعة إلى الماضي، تستسلم لحنين لا واع إلى أيام تأججت فيها المشاعر الوطنية الساخنة". ويرى كثيرون أن الحنين سببه فشل قوات الاحتلال في تحقيق أي شيء يذكر مما كان يتطلع إليه الفرد العراقي. ومن الطبيعي أن تولد حالة تمرد تتجلى بكل الوسائل المتاحة، والأغاني الوطنية العراقية واحدة منها. محلات التسجيل في بغداد، بدأت تصدع آذان المارة بالأنغام الوطنية، من دون أي قلق أو تحسب لرد فعل معاكس. يقول عبدالإله محمد، صاحب أحد محلات بيع الكاسيت: "لا أخفيكم قلقي عندما أقدمت في اليوم الأول على بثّ الأغاني الوطنية، استاء الكثير من أصحاب المحلات المجاورة، وطلبوا مني أن أُقلع عن ذلك، لأن الموضوع قد يسبب لي المشكلات. لكنني لم أتوقف، واليوم الجميع يقصدني في طلب ألبومات عن الأغاني الوطنية". ويؤكد نصرت عواد، صاحب محل موسيقى متخصصة بالأغاني الوطنية والأقراص المدمجة سي دي التي تعرض توليفات من الأغاني الوطنية، أن الإقبال الكبير على هذه الأغاني بدأ ينشط قبل أسابيع. ويرى "أنّه يعكس رغبة الجمهور في سماع أغاني الثمانينات الوطنية التي قُدمت إبان حرب العراق مع إيران، وهي تفيض بالحماسة". أما أحمد فضل، بائع متجول في منطقة ساحة التحرير، فيقول إنه بدأ العمل على الرصيف في بيع الC.D وأشرطة الكاسيت. لجأ الى طريقة لترويج البضاعة، هي استخدام جهاز التلفزيون مع سماعات كبيرة، وجلس مفترشاً مساحة من الرصيف: "في البداية كنت أعرض صوراً عن عمليات التعذيب التي كان يمارسها نظام صدام حسين، وصور الحفلات الخاصة بعدي وقصي والعائلة الحاكمة... إلا ان الطلب على مثل هذه التسجيلات انحسر. لذلك قمت بعرض الأغاني الوطنية السابقة. وخلال فترة قليلة نجحت في الترويج لهذه الأغاني، والجميع يعرف "بسطتي" ويعاملني كبطل قومي!". والجدير بالذكر أن معظم أصحاب محلات التسجيلات الذين التقينا بهم، يؤكدون ارتفاع مبيع هذا النوع من الأغاني، ويجزمون باستمرار هذا الارتفاع في الفترة المقبلة. يقول البائع نصرت عواد: "المبيعات ممتازة، وأعتقد بأنها ستستمر على هذا المستوى ما دام هناك كساد وبطالة وتذمر شعبي من الأوضاع الراهنة". ويعقب عبدالإله محمد: "إن المبيعات ستستمر، لأنها تُقدم نوعاً من الرفض، والتعويض النفسي والتعبير عن حالة التذمر التي يعيشها الشعب. ومن يستمع هذا النوع من الأغاني، يجد فيها نوعاً من التنفيس لشحنات الكبت من الاحتلال... وهناك من يحاول أن يحتفظ بالأشرطة للذكرى أو لأرشفة أحداث معيّنة لا يمكن أن تنسى في الذاكرة العراقية".