ما يبدو اليوم من بقايا زمن مضى، كان قبل خمسة عقود ثورة صغيرة في صندوق بلاستيك رقيق. ولا يذكر لو أوتنز، مبتكر الكاسيت، «محتوى» الشريط الاول، لكنه لم ينسَ ما أعقب صناعته، أي موجة الحماسة التي عمّت الاسواق حين اماطت شركة «فيليبس» الهولندية اللثام عن «اختراعه» قبل خمسين سنة في آب (اغسطس) 1963 في معرض راديو في برلين. وكان ل «الكاسيت وقع المفاجأة في الاسواق. فحجمه كان بالغ الصغر قياساً الى المسجلات المزودة بكرات أشرطة»، يقول اوتنز، وهو اليوم في ال87 من العمر. وقال كيث ريتشاردس، الموسيقار والمغني البريطاني الذي ساهم في إنشاء فرقة «رولينغ ستون»، إنه كتب أغنية «ساتيسفاكشن» الذائعة الصيت أثناء نومه وتوسل آلة تسجيل صغيرة في جوار سريره. ويعود الفضل الى هذه الآلة في تذكره الكلمات وضربات الغيتار صبيحة اليوم التالي، على رغم ان شخيره فصل بين بعض الكلمات وصوت الغيتار. وارتقت كاسيتات فرقة «غريتفول ديد» الاميركية ثقافة فرعية قائمة بنفسها. وكانت الكاسيتات جسر فرق ال «أندرغراوند» الى نشر موسيقى البانك، ووسيلة ال «دي جايز» (موزعي الموسيقى و «لاعبيها») الى نثر بذور موسيقى ال «هيب هوب». ولم تكن الكاسيتات مستودع الموسيقى فحسب. فالمرء كان في مقدوره الاستماع الى كتب مسجلة على شريط، وتسجيل الملاحظات الشخصية وسماع حفيف الصمت بين الاغاني وطنين الآلة عند تسريع الشريط وعبارة «الشريط انتهى، اقلبه الى الوجه الآخر». والى اليوم، يُقبل كثر على شراء الكاسيتات. ويعود نجاح الكاسيت الى عيوب نظام التسجيل السابق. فتكنولوجيا مسجل البكرات لم تكن يسيرة الاستخدام. وكانت بكرة الشريط مكشوفة من غير غلاف وسريعة العطب. وحجم آلة التسجيل كان كبيراً، ونقل الشريط من بكرة الى أخرى كان مهمة دقيقة وعسيرة. وسعى أوتنز الى «تصغير آلة التسجيل، وتبسيط استخدامها وجعلها في متناول المستمع». وحجم الكاسيت، شريط التسجيل، بلغ نصف حجم نظيره السابق، وأحاط به غلاف واقٍ. «هو أصغر من علبة سجائر»، أعلنت «فيليبس» في بيانها الاعلاني. ولم يطُل الأمر قبل ان ينتشر الكاسيت في أصقاع المعمورة. ففي نهاية الستينات من القرن العشرين، صار في المتناول الاستماع الى كاسيت في السيارة، وبدأت شركة «ناشنل اوديو كو» الاميركية بيعه على نطاق واسع. وهي صارت اليوم، بعد توقف «فيليبس» عن صناعة الكاسيت، اكبر شركة مُصنّعة للصندوق البلاستيك السحري. ومدير الشركة هذه اليوم، ستيف ستب - شارك والده في تأسيس «ناشنل اوديو كو» في 1969 - حسِب ان الكاسيت لعبة حين عرضه عليه بائع. ولا تقيم «ناشنل اوديو كو» وزناً للكلام الدائر عن افول الكاسيت، اذ تضخ مئة ألف منه يومياً في الاسواق. «ومبيعات الكاسيت اليوم هي الاكبر منذ تأسيس الشركة»، يقول ستب. ويعود نجاح «ناشنل اوديو كو» في بيع الكاسيتات الى غياب المنافسة بعدما طوت الشركة الأم «فيليبس» الصناعة. ولكن ستب يقول إن وراء ارتفاع مبيعات شركته عدداً من العوامل، منها بخس ثمن الكاسيت وجاذبية طرازه القديم و «نوعية» الصوت المسجل عليه، «أنالوغ» المختلف عن التسجيل الرقمي. والشريط الرخيص الثمن في متناول أي كان ليسجل ما شاء. والكاسيت محمول وليس قطعة أثاث ثابتة، وهو متين الصناعة ووتيرة تلفه بطيئة. ويبدو أن ما يسوقه ستب مصيب. ففي 1993، وجدت شركة «نيلسن ساوندسكان» ان جودة الأصوات المسجلة على كاسيت تضاهي نظيرها المسجل على قرص «سي دي». وعلى رغم انحسار بيع الكاسيت، بيع 200 ألف ألبوم موسيقي مسجل على كاسيت في الولاياتالمتحدة في 2012. وقد يبدو العدد ضئيلاً قياساً الى مجمل الالبومات المباعة في العام نفسه والبالغ 316 مليون ألبوم. ولكن مبيعات الكاسيت العام الماضي يعتد بها. فهي ارتفعت 645 في المئة عن نظيرها في 2011. ويرى ديفيد باكولا من شركة «نيلسن» أن حسنات الكاسيت كثيرة، وهي وراء بقائه على قيد الحياة. فهو في متناول الجميع وقابل للتسجيل. والإقبال على الكاسيت كبير. وموجة الشغف به لم تفتر. وشارف العمل على فيلم وثائقي عنوانه «الكاسيت» على ختامه. وفي وقت أول، حسِب المخرج عند إعداد الفيلم أنه سيكون بمثابة حفلة تأبين الكاسيت ورثاء له. ولكن سرعان ما ادرك ان قصة الكاسيت مدارها على عمره المديد وليس على وفاته. والكاسيت معمر. ووراء صموده أمام صروف التكنولوجيا والزمن هو كذلك إقبال الناس على جمع نسخه. فجامع الكاسيتات مارك بيجاسا في كاليفورنيا يملك 4 آلاف شريط كاسيت. وهو يرمي الى حيازة 3 كاسيتات من كل عمل: واحد للاستماع إليه، والثاني لحفظه والثالث لمبادلته ومقايضته. وشاغله هو البحث عن تسجيلات نادرة. وهو أنشأ صفحة على «انستاغرام» تعنى بشؤون الكاسيت، ويتابعها 6 آلاف شخص. واليوم، تُعرض كاسيتات نادرة على موقع المزاد الالكتروني، «إيباي»، وسعر الواحد منها قد يبلغ مئات الدولارات. وتنفد الكاسيتات نفاداً سريعاً في الأجنحة المخصصة لها في المتاجر. والكاسيت هو مستودع خليط الاغاني المتنوعة. وجمع «شريط الخلط» أو «الشريط المخلوط» (ميكستايب) بين انواع موسيقية مختلفة وغيّر تاريخ الموسيقى وارتقى مؤسسة ثقافية قلبت رأساً على عقب طريقة تذوقنا الموسيقى اليوم، يقول روب شيفّيلد. فالجمهور صاغ طريقته في تشارك الموسيقى رغم أنف مؤسسات الموسيقى العالمية الرسمية. ووجد الخلط هذا طريقه الى عالم «الآيبود» وخدمات تحميل الموسيقى مثل «سبوتيفاي». فلائحة الاغاني المعروفة اليوم ب «بلاي ليست» هي من بنات «الشريط المخلوط». والكاسيت أنزل الموسيقى من عليائها الى عموم الجمهور، وغيّر معنى الترفيه والتسلية. و «منذ بروز «الميكستايب» تغيرت طريقة تذوق الموسيقى، ولم يعد المرء الى سماع ألبوم موسيقي يلتزم توزيع الفرقة المغنية عوض توزيع المستمع نفسه. وثقافة «الميكستايب» تزدهر وتبلغ اوساط نعت الكاسيت. وعلى رغم أنه «والد الكاسيت»، يتذوق لو أوتنز الموسيقى المسجلة على اقراص «سي دي». فهو أشرف في السبعينات على اختراع الأقراص هذه. والحنين لا يشدّه الى الكاسيت، فعينه على المستقبل، لا على الماضي. * مراسلة، عن «تايم» الاميركية، 19/8/2013، اعداد منال نحاس