لم يعلن الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، حتى الآن، نيته الترشح لولاية ثانية في انتخابات الرئاسة المقررة مبدئيا في آذار مارس المقبل. والارجح انه ينتظر تبلور المواقف الاساسية في البلاد ليتأكد من حظوظه في التجديد. فاستناداً الى تجربتي 1994 و1999، عندما طرح اسمه لتولي الرئاسة، اشترط انتخابه بإجماع واسع يتضمن المؤسسة العسكرية واطراف المجتمع المدني، من احزاب ونقابات. وكما هو معروف رفض بوتفليقة الرئاسة في المرة الاولى، لأن المؤسسة العسكرية، في ذروة مواجهتها الجماعات الاسلامية المسلحة، لم تكن في وارد تقديم تنازلات اساسية تؤثر في هذه المواجهة، خصوصاً ان اطرافاً واحزاباً جزائرية سعت، عبر لقاء سان اجيديو في ايطاليا، الى ادماج جبهة الانقاذ الاسلامية في العملية السياسية. الامر الذي حمل اصحاب القرار على استبعاد كل من تحرك في هذا الاتجاه، خصوصاً جبهة التحرير الوطني. وتالياً حُرم بوتفليقة من الاجماع الذي اشترطه لتولي الرئاسة، بعد انتهاء ولاية مجلس الرئاسة آنذاك. ونتيجة لهذا الرفض اتجهت المؤسسة العسكرية الى احد جنرالاتها، اليمين زروال، لتولي المنصب. في المرة الثانية، عندما تمسك زروال بترك الرئاسة التي استمر فيها بالانتخاب، اتجهت المؤسسة العسكرية ثانية الى بوتفليقة ووفرت له الاجماع الذي يطالب به. فجمعت حوله جبهة التحرير التي استعادت رصيدها للمناسبة والتجمع الوطني الديموقراطي البديل السياسي الذي شكله زروال عن الجبهة وحركة مجتمع السلم احد الاحزاب الاسلامية الاساسية. وفاز بأكثرية 65 في المئة من الناخبين، علماً ان المرشحين الآخرين قاطعوا الانتخاب بعدما اتضح لهم ان ترشيحهم كان لتجميل الصورة التي ستأتي ببوتفليقة رئيساً. ردد بوتفليقة، خلال حملته الانتخابية، انه مرشح الجيش وجبهة التحرير والتجمع الوطني. لكنه بعد انتخابه توجهت انتقاداته الى المؤسسة العسكرية، وكبار الضباط فيها، من دون ان يتمكن من ادخال اي تعديل يذكر لميزان القوى فيها. ويبدو ان المشكلة الاساسية بعضهم يسميها سوء تفاهم عميق بين بوتفليقة والمؤسسة العسكرية والاحزاب ايضاً، تكمن في انه حاول ان يستعيد النموذج البومديني للرئاسة. لكن البلاد شهدت تغيراً جذرياً عن فترة حكم الرئيس الراحل هواري بومدين الذي لم ينازعه احد، خصوصاً داخل جبهة التحرير الواجهة الحصرية للحكم، وداخل المؤسسة العسكرية التي ظل قائدها الوحيد. هذه الظروف لم تتوافر لبوتفليقة الذي يعتبر نفسه ليس وزير خارجية بومدين فحسب، وانما وريثه ايضاً. ولذلك اعتبر انه يستطيع ان يطلب أكثر بكثير مما يقدمه المنصب حالياً وتتيحه الظروف العامة في البلاد. ولن يفصح الرئيس الجزائري عن نيته طلب ولاية جديدة ما لم يعتبر ان الظروف التي ترافق نهاية ولايته لن تستمر في حال أُنتخب ثانية. ومن هنا، ربما، السعي الى ايجاد معطيات جديدة تساعد على الغاء هذه الظروف. ويُفهم معنى قرار تحييد جبهة التحرير عبر انشقاق يتصل مباشرة بالانتخابات الرئاسية ككتلة استعادت بعضاً من مجدها الغابر عبر الانتخابات البرلمانية الاخيرة. اذ ثمة من اعتبر، في محيط الرئيس، ان ضرب رصيد امينها العام الحالي علي بن فليس، يساعد على إضعاف من يرعى احتمال انتخاب الاخير. لكن هذا التوجه لا يراعي المستجد الآخر في الساحة السياسية الجزائرية، وهو ان الجبهة لم تعد الواجهة الحصرية للمؤسسة العسكرية التي وزعت رعايتها على الاحزاب والشخصيات على نحو يجعلها في مأمن من الارتباط بقوة واحدة، ومن تكرار تجربة الثمانينات عندما كانت جبهة التحرير الحزب الوحيد. رغم التزام قيادة الاركان الصمت في الشأن الانتخابي واعلانها المتكرر انها لن تتدخل في اللعبة، تحفل الاحداث الجزائرية بالرسائل المتبادلة. والرابح هو من يستطيع أن يفك رموزها، بالنسبة الى المرشح المفضل او الى واجهته السياسية او الظروف التي سيحكم فيها. بوتفليقة رفض هذه اللعبة في 1994. ودخل فيها في 1999 وتولى الرئاسة ليكتشف ان ما جعله يرفض سابقاً لا يزال قائماً. فهل يأمل بأن ما فاته ممكن التحقيق في 2004، على رغم البدائل الكثيرة المتوافرة؟