يبدو ان فك الارتباط مع الفلسطينيين سلطة ومنظمة وفصائل وشعباً أصبح عنواناً أو هدفاً لحال دولية واقليمية وعربية واسرائيلية تزداد قوة وضغطاً وتعاظماً مع مرور الوقت لهدف أولى هو اجبار الفلسطينيين على فك الارتباط فيما بينهم تمهيداً للهدف الاستراتيجي المتمثل بإجبارهم على التنازل عن كل ما لم يتنازلوا عنه من حقوق لهم وبالتالي اخضاعهم لمشيئة القرار والاستراتيجية الأميركية والاسرائيلية. بدأ استخدام مفهوم فك الارتباط في الأدبيات السياسية العربية بعيد انتهاء حرب اكتوبر 1973 عندما استخدم مصرياً واسرائيلياً وأميركياً لوصف المفاوضات التي أجريت في الكيلومتر 101 على الأراضي المصرية للتوصل الى ما عرف بفك الارتباط وبتعبير أدق فك الاشتباك بين القوات الاسرائيلية والمصرية سواء تلك التي كانت غرب قناة السويس أو شرقها. وكان هذا الاتفاق أو ما عرف باتفاقية سيناء الأولى مقدمة للتوصل الى ما عرف باتفاقية سيناء الثانية، واللتين شكلتا معاً الأرضية التي انطلق منها الرئيس المصري السابق أنور السادات للقيام بزيارته الشهيرة للقدس عام 1977 وللتوقيع على اتفاقيتي كامب ديفيد عام 1978 ومعاهدة السلام المصرية - الاسرائيلية عام 1989. وترافق فك الارتباط العسكري هذا على الجبهة المصرية بالتوجه الى عقد ارتباط سياسي بين الجانبين معاهدة السلام، أما على الجبهة العربية فقد ترافق بفك ارتباط شبه تام بين مصر والدول العربية بعد قرارات قمة بغداد 1978، وترافق بما هو أخطر أيضاً عندما بدأ تفكيك التضامن العربي، مما أتاح لإسرائيل الفرصة للقيام بغزو لبنان عام 1982 ووصول قواتها الى بيروت حيث حاصرت القوات الفلسطينية هناك وتمت بعدها عملية فك ارتباط أكبر: 1 - فك ارتباط القوات الفلسطينيةبلبنان واخراجها منه وتوزيعها على عدد من الدول العربية. 2 - فك ارتباط قيادة منظمة التحرير الفلسطينيةبلبنان واخراجها بعيداً من ما يعرف بدول الطوق ودفعها الى التمركز في تونس. 3 - فك الارتباط العربي بالمقاومة الفلسطينية عبر منع الدول العربية من التضامن مع القيادة والمقاتلين الفلسطينيين خلال حصار اسرائيل لهم لمدة ثلاثة أشهر في بيروت. جرت بعد الغزو أكثر من محاولة لاستغلال الضعف الذي حل بالفلسطينيين لاستقطابهم واقتسامهم عربياً، وكان من أبرز تلك المحاولات التوصل الى ما عرف باتفاق عمان عام 1984 الذي أملت القيادة الأردنية بأن يكون مدخلاً لها لمشاركة القيادة الفلسطينية التمثيل الشرعي للشعب الفلسطيني وسعت الى أكثر من ذلك عبر القمة العربية في عمان 1987، الا ان هذه الآمال سرعان ما أحبطت مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى انتفاضة الحجارة في نهاية ذلك العام، وما أظهرته من رفض قاطع لأي مشاركة لمنظمة التحرير في كونها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، الأمر الذي دفع القيادة الأردنية عام 1988 الى اتخاذ قرارها الشهير بفك الارتباط مع الفلسطينيينالضفة الغربية مما أتاح الفرصة بالتالي لقيادة المنظمة لإعلان الاستقلال والدولة الفلسطينية في المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في تشرين الثاني نوفمبر 1988. بدا واضحاً مع اعلان فك الارتباط الأردني وما سبقه من فك ارتباط مع كل من سورية ولبنان ان القيادة الفلسطينية عبر تمسكها باستقلالية القرار الوطني الفلسطيني ترغب بمفاوضة الأميركيين والاسرائيليين مباشرة وليس عبر شركاء أو وسطاء حتى ولو كانوا عرباً وهو ما تجلى لاحقاً في اتفاق أوسلو عام 1993 وما تبعه من اتفاقات مع الاسرائيليين برعاية أميركية. ومع اعلان هذا الاتفاق ازداد فك الارتباط بين الفلسطينيين وعدد كبير من الدول العربية وظهرت في المقابل مراهنة كبيرة على ارتباط فلسطيني مباشر بالولاياتالمتحدة واسرائيل. إلا ان هذه المراهنة لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما انتهت الى الفشل في مفاوضات كامب ديفيد في صيف عام 2000 حين اكتشف الفلسطينيون أن هذا الارتباط يتطلب أثماناً باهظة لا يقدرون على وضعها على طاولة المفاوضات، خصوصاً ان بعض هذه الأثمان عربية واسلامية لا يملكون حق التصرف بها. الأمر الذي دفع الأميركيين والاسرائيليين الى بدء عملية واسعة من أجل اسقاط كل رهان فلسطيني على الارتباط بهم من دون دفع الثمن والعمل في مرحلة لاحقة من أجل فك ارتباطهم بالفلسطينيين كقضية، بما في ذلك استرجاع ما سبق وأن قدموه لهم اثر اتفاق أوسلو وسحب كل الوعود السابقة. مع انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الثانية وما تخللها من عمليات مقاومة استشهادية شن الاسرائيليون والأميركيون هجوماً معاكساً على أكثر من جبهة، من جملة أهدافه: 1 - الغاء اتفاق أوسلو واقعياً عبر تدمير بنى ومؤسسات وقوات السلطة الفلسطينية واعادة احتلال مناطق السلطة. 2 - وصم رئيس السلطة وعدد آخر من قياداتها بالإرهابيين، وتصنيف عدد كبير من الفصائل الفلسطينية ضمن القوائم الأميركية الخاصة بالجماعات الإرهابية. 3 - رفض التعامل مع رئيس السلطة الفلسطينية بعد احتجازه في مبنى المقاطعة في رام الله واعتباره حجر عثرة أمام السلام لا بد من اقالته قبل استكمال المسيرة السلمية. 4 - وقف الدعم العربي لنضال الشعب الفلسطيني وحقه في العودة. ويترافق ذلك الآن مع هجوم أوسع تشنه الولاياتالمتحدة الأميركية على المنطقة وقد تم خلاله احتلال العراق وتوجيه ضغوط وتهديدات قوية الى أكثر من دولة عربية حيث أصبح الكثير من الدول العربية أشبه بالمحاصرة من جانب الأميركيين مطالبة باتباع وتنفيذ جملة سياسات داخلية واقليمية تنسجم وتتلائم مع الرؤية الاستراتيجية الأميركية للمنطقة راهناً ومستقبلاً. انهار التضامن العربي منذ سنوات طويلة وحل التنسيق مكانه وجاء الآن مرحلة التفكك العربي بما فيها فك الارتباط في ما بين الدول العربية بعضها ببعض وفي المقدمة بين الدول العربية وفلسطين التي كانت الرابط والجامع القومي لهذه الدول، وإذا ما استمرت الأوضاع الراهنة ربما نشهد في السنوات القريبة المقبلة احتلالاً أميركياً لعدد آخر من الدول العربية وانهيارات على مستوى التضامن الوطني في بعضها فك الترابط والارتباط الوطني. على الصعيد الفلسطيني تظهر قراءة المؤشرات الراهنة ان ثمة رهاناً أميركياً واسرائيلياً على أحداث انهيارات في الموقف الفلسطيني تؤدي الى فك ارتباط الفلسطينيين ببعضهم تمهيداً لتصفية قضيتهم وإذا أمكن وجودهم السياسي المستقل ولعل أبرز الشواهد على هذا الرهان: 1 - الحيلولة دون أي مؤازرة من فلسطينيي الجليل والشتات لفلسطينيي الضفة والقطاع. 2 - مصادرة دور وفاعلية الهيئات القيادية الفلسطينية الممثلة للشعب الفلسطيني وفي المقدمة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية سواء على المستوى الفلسطيني أو العربي أو الدولي، فهذه الهيئات لا تستقبل في العواصم العربية والعالمية وتستقبل بأصوات المعارضة في الساحة الفلسطينية. 3 - محاصرة الفصائل الفلسطينية بتهمة الارهاب وارغامها على العيش في حال شلل نضالي وسياسي واعلامي. 4 - تشتيت مركز القرار الفلسطيني وجعله نهباً بأيدي أكثر من جهة فلسطينية تدعي كل منها الأحقية به. لعل هذه أصعب وأقسى المراحل التي يمر بها الفلسطينيون والدول العربية منذ عام 1948، وثمة مخاوف جدية وكبيرة من أن تكون مقدمة للعودة بالفلسطينيين والعرب الى ما هو أسوأ بكثير: الى أوضاع شبيهة بما حل بالعرب بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى حين وضعت بذور التفكيك والتقسيم الأولى وفرض نظام الانتداب والوصاية والوعد بإقامة وطن قومي للصهاينة في فلسطين. * كاتب فلسطيني.