تُوهمنا رواية "ماكياج خفيف لهذه الليلة" *، بأن الأمر يتعلق بامرأة معطوبة تريد أن تنسى عطبها من خلال ربط علاقة مع عشيق وتسجيل فيلم وثائقي عن تجربتها. وهي لذلك تبذل جهداً لتداري ما أصاب جسدها الجميل اثر انفجار قنبلة أودت بحياة زوجها وشقيقتها وشقيقها، وأفقدتها حصيلة الثلاث سنوات الأخيرة لذاكرتها. وإذاً، الماكياج يسعف على التخفي وراء "أنا" متلألئة ترضي من عرفوها قبل الحادثة، وترضي فادية نصار التي ترفض الاستسلام للعطب وللجرح الممتد من أعلى الرقبة الى الصدر... إلاَّ ان التمعن في البنية المزدوجة للرواية وفي ما تشتمل عليه حواراتها وتأملات الساردة، يضعنا أمام نص مكتنز لأسئلة وايحاءات تتعدى مسار حياة امرأة الى مستوى أكثر شمولية، إذ تتحول الشخصية الأساسية الساردة الى "موقف وجودي" يُسائلنا ونُسائله. حركة البنية المزدوجة يرجع أصل الحبكة المحفزة للأفعال داخل "ماكياج خفيف لهذه الليلة" الى حادث من الأحداث المختلفة المألوفة، وهو انفجار قنبلة داخل سيارة كانت تقل فادية نصار، الساردة التي نجت وحدها فيما انقتل زوجها وشقيقتها وشقيقها" ولا نجد أي اشارة الى سبب هذا الانفجار، وان كان السياق يشير الى الحرب الأهلية اللبنانية. لكن الرواية لا تستوحي الحرب ولا تنسجن داخل ردهاتها" فهذه الحادثة تعيد إلينا امرأة محتفظة بجمالها على رغم الجرح البارز على رقبتها" إلا أنها، بعد شهرين من فقدان وعيها، لم تعد تتذكر أحداث السنوات الثلاث الأخيرة. وعندما تستأنف حياتها مع ابنتها كاميليا وابنها وليد، تحس بأن مسافة كبيرة تفصلها عنهما. وما يسعفها على الاستئناف هو فكرة فيلم نصف روائي، نصف وثائقي تقترحه عليها صديقتها جيهان المخرجة. من هنا، تأخذ الحبكة بُعداً آخر، لأن فكرة الفيلم تتدخل لتوجه مسار سرد فادية للحظات ومواقف من حياتها الماضية، وتتيح لجيهان التي كانت تغار من جمال صديقتها وانجذاب الرجال اليها، أن تؤثر في مجرى السيناريو وأن تُغلب الجانب التخييلي على الجانب الوثائقي. ان هذا الازدواج في الحبكة يوفر نوعاً من التوازي في السرد، ويعلو بالحادث المبتذل الى مدارج التخييل، ويفتح الطريق أمام فادية نصار لتتمرد على "وظيفة" الزوجة المستسلمة لنزوات زوجها الدونجواني، وعلى عادات الماكياج قبل الذهاب الى سهرة موظفي وموظفات "المنظمة"... بدلاً من ذلك، تتطلع الى أفق آخر تستعيد فيه حياتها وتكشف عن شهوتها المكبوتة، وتسعى الى كسر العزلة التي تفرضها عواقب الحادثة. بعبارة ثانية، يغدو النص وكأنه سيرورة تحليل نفساني يتم على مستويين: مستوى التذكر من خلال انبثاقات ذاكرة فادية وهي تسرد منتقلة من الحاضر الى الماضي أو العكس" ومستوى "الاستنطاق" الذي تجريه جيهان من صديقتها أثناء الإعداد للفيلم، مستعيدة وقائع من حياتهما في أول شبابهما أو ملاحقة مغامرة فادية مع الرسام يوسف... نحن، إذاً، أمام امرأة كان من المفروض أن تكون ميتة أو فاقدة لوعيها" لكنها، في النص، تبذل جهدها لتثبت انها موجودة ومتميزة في هذا الوجود عما عاشته من قبل: "أشعر أحياناً أن ما يزيد رغبتي في الخروج هو كرهي لذلك الدور الذي يريدونني أن أستمر في لعبه. أن أكون امرأة باقية من أثر رجل ميت"، ثم تخاطب صديقتها: "... كما انني أريد يا جيهان أن يعرف من سيشاهدون فيلمك ان ما يشاهدونه هو حياتي أنا، أنا نفسي، فادية نصار، ولا أريد أن تحل محلي ممثلة كما قلت لي" ص 22. هذه العناصر المتداخلة للحبكة، تُفضي الى محفل سرديّ متحرك ينتقل من مستوى الى آخر، ولكن دائماً باتجاه الكشف عن ذات فاديا نصار، العائدة الى الوجود والتي لم تعد ترضى بأن تظل حبيسة الصورة القديمة المفروضة عليها من لدن محيطها الاجتماعي... وتتعزز عودتها الى الحياة بالشهوة، بالنزوة، بالحلم الجنسي الذي سعت الى أن يصبح واقعاً: فقد رأت في المنام، اثناء النقاهة، انها في حضن الرسام يوسف صديق اختها الراحلة سعاد. لحظة حلم جسّدت أوج الشّبق وتمازج الجسدين. من ثم اقترن يوسف عندها برغبتها في استئناف الحياة وتحدي وصائية المنظمة والأسرة" لذلك لم تتردد في الاتصال به واستدراجه الى سريرها. تغدو علاقتها مع يوسف مجالاً لتثبت لنفسها انها مشتهاة ولا تبعث على الشفقة، خلافاً لصديقتها "وداد" التي خرجت من حادثة اخرى محطمة الجسد تثير الشفقة ولا تقوى على مقاومة "قدرها". إلا ان هذا "الحاضر" الذي خلقته فادية في حياتها تسجيل فيلم، علاقة جنسية مع يوسف، الحرص على اناقتها وكبريائها... سرعان ما يتعرض، بدوره، للعطب لأن هناك من يندُّ عن ارادتها ورغباتها، ويعيدها الى واقعها المعطوب الذي تسعى الى مجاوزته. كأن الماكياج، وملء الوقت والهروب الى امام، لم يصمد امام ذلك القلق الوجودي الذي يتسلل خلسة الى اعماق فادية لينخر "مشروع" استئنافها للحياة! الهشاشة المتربصة بالوجود على رغم صلابة فادية وإصرارها على إنقاذ حياتها الشخصية، غير مبالية بواجبات الأمومة، فإن خبراً صغيراً تنقله إليها جيهان كان كافياً لأن يجعل سوسة القلق والهشاشة تتسرب الى "بُنيانها". اخبرتها جيهان أن عزوف يوسف عن مقابلتها راجع الى انها لم تكن تبلغ معه اوج اللذة اثناء المجامعة. هكذا روت جيهان على لسان يوسف، وهو ما جعل الشك يستولي على فادية فأخذت تشك في كل ما سردته عن حياتها: "صدّقتُ جيهان في ما قالته ولم أصدقها. تركت ذلك ورائي، او وراء الخط الذي اقف عند جهته الأخرى، اجد ان ما كنت فيه كان حقيقياً وغير حقيقي في الوقت نفسه. أو أفكر انه كان موجوداً ولكن ليس وجوداً كاملاً" ص -120. عند هذا المنعطف، نحس ان الرواية تؤشر على مستويات اعمق، وكأنما البنية السردية المتلبسة شخصية فادية نصار وصوتها وتفاصيل حياتها، تتحول الى بنية مجرّدة تضعنا امام معضلة الهشاشة المتربصة بكل وجود. وبغض النظر عن مقاصد الكاتب، فإن قراءتي ل"ماكياج خفيف لهذه الليلة" جعلتني انتقل من البنية "الملموسة" الى المجردة التي جعلت من فادية نصار امرأة متأرجحة بين عدم ووجود وأيضاً بين وجود وعدم. وتوضيح هذا التأويل يقتضي الإشارة الى بعض المفاهيم التي استعملها فلاسفة الوجود. وأظن ان التمييز بين الوجود في ذاته en soi والوجود لذاته pour soi قد يُسعفنا على تجلية الأبعاد الوجودية التي تنضح بها تجربة فادية نصار. فقد كانت، قبل الحادثة، اقرب ما تكون الى الوجود في ذاته، اي كانت دائماً ما كانته متسامحة مع زوجها، مهتمة بولديها، منفذة لما تطلبه "المنظمة"...، وبعد الحادثة جرّبت الانتقال الى الوجود لذاته، اي "الى ما لم تكنه وإلى ما ليس هي كائنته" تغيير نمط الحياة، العشيق، الفيلم، المجازفة بوجودها.... قياساً الى ما حكته عن حياتها قبل الحادثة، غدت فادية مغامرة بوجودها الخاص، وكأنها انتقلت من "الممارسة الساكنة" سارتر الى ممارسة الوجود، او كما يقول هيدغر: "الذي يوجد هو من يُقامر بوجوده الخاص ويُجازف به". من هذا المنظور، تبرز الهشاشة بوصفها الخلفية الأساس لتجربة فادية نصار التي تتصرف وتفكر داخل "موقف وجودي" محدد: العطب الجسدي، السنّ المنبئة بأفول الجمال، الشهوة الجنسية المستيقظة بعد حرمان... هذا الموقف يحكم عليها بالعودة الى ما يفرضه وضعها المعطوب، اي اللاوجود او ان توجد مثل كم مهمل مثل صديقتها وداد راضية بما خططه "القدر". هي ارادت ان تتحدى ذلك الموقف "الماهوي" المتصل بالحادثة لتختار وجوداً آخر يستجيب لرغباتها ولا يُبالي بالمواضعات الاجتماعية: تجاهلت واجبات الأمومة، لم تحفل بنظرة الآخرين إليها، اختارت عشيقاً وأرادت ان "تخلّد" تجربتها في فيلم وثائقي... من ثم تبدو الرواية، في نهاية التحليل، وكأنها تحكي عن امرأة تحدت الهشاشة والوجود في ذاته، لتغير حياتها وفق ما ترغبه هي، إلا ان إغفالها ل"الآخرين" ولرغباتهم، هو ما سيعيد فادية الى ما يشبه نقطة الصفر، اي الى مواجهة تلك الهشاشة المتربصة دوماً بحريتنا. كان يكفي ان تكون لجيهان مقاصد اخرى مغايرة لما ترجوه فادية من إنجاز الفيلم، وأن يتوقف يوسف عن الالتقاء بها لأنها "لا تصل"، حتى تُحس فادية بأن الآخرين حاضرون ويتحكمون في تحديد ماهيتنا، بل وفي ان يفرضوا علينا العزلة داخل العالم. خلال رحلة استبطان مسارها واستعادة ما عاشته وما تعيشه في حاضرها، تدرك فادية - عندما تكتشف بأن وجودها هو ايضاً داخل العالم ومع الآخرين - انّ فعل المجازفة الذي انطلقت منه نحو "الوجود لذات الوجود" عندما ذهبت الى ساحة القتال لتصوّر بالكاميرا، هو فعل قد استنفد امكاناته، وأنها لا تمتلك القوة لمتابعة المجازفة المحققة لوجودها: "ما عشتُه منذ الليلة التي اقامني فيها يوسف من نومي كان كله واحدة من المجازفات التي كنت ألقي بنفسي إليها ... لقد توهّمت قوة ليست فيّ ورغبة ليست فيّ كذلك، بحسب ما نقلته إليّ جيهان. وأنا، إذ قبلت بذلك، وإذْ صدّقته، فذلك لأنني بلغت آخر المجازفة وصرت في الوقت الذي ابدأ فيه تنصّلي مما فعلته" ص164. ولا شك في ان هذا التأويل لرواية "ماكياج خفيف لهذه الليلة" سيتدعم اكثر باستحضارنا للشكل والكتابة اللذين اختارهما حسن داود، فهو يتقيد بالبنية المصغّرة المتفرعة عن حبكته، ويستثمرها بمنهجية تتيح ملاحقة وعي امرأة تجاهد للخروج من أسيجة العدم لتنغمر في وجود فرداني يحصنها ضد الهشاشة والغلق والكهولة الزاحفة... وكتابته المقتصدة، الزاخرة بالتفاصيل الدقيقة تُسعف على إبراز التوتر الملازم لفادية نصار وهي تسعى الى ابتداع حياتها وفق رغائبها. والشكل والكتابة في تضافرهما، حققا جدلية بين صور شخصية فادية، ونقلا الحكاية الأولية الى مستوى التخييل والتجريد، بقدر ما كان مشروع الفيلم الوثائقي داخل الرواية، يتحول الى تخييل يستغني عن فادية في التمثيل، بل ويبتعد عن حكايتها وشهادتها. وجدلية الصور والبناء هي ايضاً ما يبعد الرواية عن التفسير السيكولوجي الضيق ويمدها بعنصر الالتباس المتيح لقراءات متعددة ذات اواصر متواشجة مع اشكالية الوجود والقلق والهشاشة. وهو منظور ضروري اذا اردنا ان نتجنب القراءة البرّانية التي جعلت احد النقاد يؤاخذ حسن داود على انه ألقى عيناً باردة لا ترحم على شخصياته! اظن ان مواجهة مشكلة الوجود والعطب الفيزيقي والنفسي لا يمكن ان تنكتب روائياً من خلال نظرة "اخلاقية" مثل التي يدعو إليها ذلك الناقد، لأنها ستطمس قساوة العزلة والتوحد داخل الجرح وستسكت عن "جحيم الآخرين"، ولحسن الحظ ان حسن داود تمسك ببرودته ليوصلنا الى تخوم تلك الأقاصي الوجودية التي هي جزء من تجربة الحياة. * حسن داود: ماكياج خفيف لهذه الليلة، نشر رياض الناشر، 2003، بيروت.