Jacques Julliard. Rupture dans la Civilisation. إنفصام في الحضارة. Gallimard, Paris. 2003. 88 Pages. هل الحضارة الغربية على وشك الانفصام؟ جاك جوليار، أحد أبرز كتّاب الإفتتاحيات في الصحافة الفرنسية، لا يتردد في أن يطرح السؤال. والمناسبة هي الحرب العراقية، او "المغامرة العراقية" للولايات المتحدة الأميركية، كما يؤثر ان يقول. فالحضارة الغربية، منذ انطلاقة الحداثة التي كان اكتشاف القارة الأميركية احد مؤشراتها، حلّقت على الدوام بجناحين: أوروبي وأميركي. وعلى رغم ان الجناح الأميركي كان مجرد تفريع على الأصل الأوروبي الا انه مارس دوماً على الأوروبيين جاذبيته الخاصة. هذه الجاذبية يعيدها جاك جوليار الى الإزدواجية التكوينية للولايات المتحدة الأميركية: فهي وريثة العالم القديم، لكنها أيضاً مخترعة العالم الجديد. وعلى الدوام كانت القارة الأوروبية "العجوز" تنظر اليها بالعين الدامعة بالحنان التي غالباً ما ينظر بها الوالدان الى أولادهما وهما يريانهم يتجاوزونهم ويتفوقون عليهما في الجسارة والابتكار والنجاح مع بقائهم على وفائهم لهما. ولكن هذه العلاقة المتبادلة القائمة على الاعجاب الوالدي، من جهة، وعلى الوفاء البنوي من جهة اخرى هي اليوم، وتحديداً منذ 11/9/2001، قيد انفصام. فبسبب تلك العملية الارهابية غير المسبوق اليها في التاريخ، أو بكل بساطة بسبب طريقة توظيف الادارة البوشية لها، اعلنت الولاياتالمتحدة الأميركية بصورة رسمية عن التخلي عن "ازدواجيتها" وبالتالي عن ذلك الطابع الذي كان يعطي هويتها سحرها الخاص: فهي من الآن فصاعداً لن تكون الا أميركية خالصة، وستستغني حتى عن الصداقة الحرة لأوروبا. أفلم يقل بوش وهو يرسم بنفسه ما اسماه "الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي الأميركي" ان "من ليس معنا فهو ضدنا"؟ والخطاب موجه هنا لا الى الاعداء، بل الى الاصدقاء، وتحديداً الأوروبيين. فهم مطالبون من الآن فصاعداً بصداقة "لا مشروطة" وبالتالي بتبعية ذيلية للولايات المتحدة الأميركية مع ما يترتب على ذلك من "انفصام في الحضارة". بهذا المعني يمكن القول ان اكبر انتصار حققه بن لادن ليس تدمير برجي المركز التجاري في مانهاتن وايقاع ثلاثة آلاف قتيل من المدنيين. بل انتصاره الاكبر هو المسار الجديد للسياسة الأميركية في عهد الادارة البوشية.، وهو المسار الذي قدمت اعتداءات 11/9 مناسبته وذريعته. فبانتصار ابن لادن انتصرت في الجانب الأميركي فلسفة جديدة للتاريخ والجغرافيا معاً: انها فلسفة "صدام الحضارات" التي تخوّف منها هانتنغتون وتمناها ابن لادن، والتي طالما تحيّن اليمين الجديد الممسك بمقاليد الادارة البوشية الفرص لوضعها موضع التطبيق. وهو صدام حضارات بمعنيين اثنين للكلمة: انفصام داخل الحضارة الغربية نفسها، وانفصام داخل الحضارة العالمية ما بين الحضارة الغربية والحضارات اللاغربية، وتحديداً الحضارة الإسلامية اليوم، وربما غداً الحضارة الهندوسية او الكونفوشية. هذا الانفصام المزدوج في الحضارة يجد ترجمته الجيوبوليتيكية في المبدئين اللذين باتا يتحكمان بالاستراتيجية الأميركية في عهد الادارة البوشية: احادية الجانب واحادية القطب. احادية الجانب في التعاطي مع من كان يسمى حتى الأمس القريب بالشريك الأوروبي، وأحادية القطب في التعاطي مع سائر العالم باتجاه بسط نوع من هيمنة امبريالية كونية. والمغامرة العراقية هي التي قدمت نموذجاً عينياً ومفجعاً معاً على كيفية اشتغال هذين المبدئين. فالمغامرة العراقية اتاحت المجال للولايات المتحدة الأميركية لكي تحطّم اولاً ما بدا وكأنه يمثل خطر وحدة أوروبية. وكلمة "خطر" هنا ليس مبالغاً فيها، على حد تعبير ج. جوليار على الاقل. فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي لم يعد هناك من قوة اخرى في العالم قادرة على ان تشكل قطباً موازناً للقطب الأميركي سوى قوة أوروبا الموحدة. وقد قطعت أوروبا شوطاً أساسياً على طريق هذا "التقطّب" عندما افلحت في توحيد عملاتها وفرضت اليورو أداة للتعامل الاقتصادي الدولي الى جانب الدولار. ولئن بدا في وهلة اولى ان الخطر الأوروبي قابل للاستهانة به ما دامت العملقة الاقتصادية الأوروبية تقترن بقزامة سياسية وعسكرية، فان الأمور اخذت منحى اكثر جدية عندما شرعت أوروبا تفكّر بتأسيس نفسها دستورياً. ولقد جاءت المغامرة العراقية في التوقيت المناسب لتعيد شرذمة أوروبا سياسياً. والواقع ان حرص الادارة الأميركية على توريط دول أوروبية في المغامرة العراقية لم يكن بهدف الحصول على مساهمة عسكرية فائضة أصلاً عن الحاجة، بل كان الدافع الاول تمزيق وحدة الصف الأوروبي او الحؤول دون تبلورها. ولا عجب ان يكون الخيار قد وقع على انكلترا توني بلير لاداء دور "السمسار" لدى الأوروبيين "المنشقين". فبريطانيا البليرية هي الدولة الأوروبية الكبيرة الوحيدة التي لم تحسم امر انتمائها الى منطقة اليورو، فضلاً عن انها لم تحسم أصلاً مسألة هويتها الموزعة ما بين تلبية النداء الاطلسي الأميركي والنداء القاري الأوروبي. ومع ان ج. جوليار يصرّ على قراءة المغامرة العراقية بوصفها حرباً ناجحة عسكرياً وفاشلة سياسياً، فانه لا يفلح في كتم مراراته من كونها حققت في أوروبا النجاح السياسي الذي لم تحققه في العراق. فاستراتيجو البيت الأبيض من اليمينيين الجدد أفلحوا في "شرشحة" أوروبا من خلال استزلام بعض قياداتها. ومشهد "الإمّعات" الي قدمه اثناء المغامرة العراقية بعض رؤساء الحكومات الأوروبية مثل اسبانيا او بولندا والذي بدوا معه وكأنهم نسخة طبق الأصل من كولين باول نفسه هو مشهد مضحك مبكٍ معاً. فمن خلاله يمكن للمرء ان يدرك عيانياً ان أوروبا الوحيدة التي تتنازل النزعة الأميركية الاحادية الجانب للتعامل معها هي كاريكاتور أوروبا. هذا النجاح النسبي الذي حققته المغامرة العراقية لأميركا في أوروبا يقابله في العراق فشل ذريع ومطبق. صحيح ان الحرب كانت بحد ذاتها ناجحة من وجهة النظر العسكرية، ولكن حتى هذا النجاح كان تحصيل حاصيل اكثر منه نجاحاً بالمعنى الحقيقي للكلمة. فعندما يتصدى اقوى جيش واحدث جيش تسليحاً في العالم لشن الحرب على جيش فاقد لنصف عتاده من جراء الضربة القاصمة التي وجهت اليه في حرب 1991، ومتقادم النصف الباقي من عتاده من جراء حصار محكم دام اثني عشر عاماً، فان الحديث عن "نجاح باهر" كما جرى توصيف حرب 2003 يغدو ضرباً من نكتة. لكن مقابل هذا النجاح الذي لا يزن وزن ذبابة من وجهة النظر العسكرية فان الفشل ثقيل حقاً بالعواقب من وجهة النظر السياسية. فالحرب العراقية كانت فاشلة اولاً من حيث سببيتها المعلنة: تدمير اسلحة الدمار الشامل المعزوّ امتلاكها الى العراق. ومن هذا المنظور تحديداً فان الحرب العراقية ستحتل مكانها في تاريخ الحروب بوصفها نموذجاً تاماً لحرب كاذبة. والحرب العراقية فاشلة ثانياً من حيث غائيتها المعلنة: إقامة نظام حكم ديموقراطي في العراق. فعدا عن تناقض المفهوم الذي تمثله ديموقراطية مستجلبة على متن الدبابات، فان كل الدلائل تشير الى ان ما ينتظر العراق "المحرر" ليس فردوس الديموقراطية، بل جحيم الاصولية الدينية والحرب الاهلية الطائفية والاثنية. والحرب العراقية فاشلة ثالثاً بقدر ما جرى تصويرها على انها حرب ضد الارهاب وتحديداً ضد ارهاب القاعدة. والحال ان ما فعلته الحرب العراقية هو انها حوّلت العراق "المحرر" الى بؤرة جديدة للارهاب، وبدلاً من ان تغلق جبهة لا وجود لها للقاعدة فتحت لها من حيث لا تتوقع، جبهة. ولئن شُنت الحرب العراقية رابعاً باسم المطاردة الدونكيشوتية لشبح ابن لادن، فإن ابن لادن لم ينتصر قط كما انتصر في العراق "المحرر". فلقد أراد استجرار الغرب الى حرب ديانات فكان له في العراق ما أراد. ففي كل مكان من العالم العربي والإسلامي يشار الآن الى الحرب الأميركية في العراق على انها صليبية جديدة. وهذه "تجلية" كبرى للادارة الأميركية البوشية: فقد أرادت مغامرتها العراقية حرباً للحضارة ضد الهمجية وزجّت بها في قرون وسطى جديدة تتكرر فيها المواجهة القديمة بين الصليب والهلال.