"آسيا جبار رحّالة بين الجدران/ من أجل شعرية عابرة للحدود" عنوان ندوة أقيمت أخيراً في "دار الكتّاب" في باريس، وكانت بمثابة تظاهرة أدبية جاءت ضمن "سنة الجزائر في فرنسا"، وقد خصّصت لدراسة التجربة الإبداعية لآسيا جبار، وشارك فيها عدد من النقاد والكتاب والأساتذة الجامعيين المهتمين بالأدب الفرنكوفوني، من بينهم أندريه شديد وجاكلين ريسيه وفرنسوا بون. وكان من المدعوّين إلى المشاركة أيضاً ألبير ماميه وعبدالكبير الخطيبي. وجرت المداخلات كلها في حضور آسيا جبار التي شاركت في النقاش وتبادل الآراء، وساهمت في إضاءة بعض الجوانب حول سيرتها الشخصية وأدبها. ركزت الندوة على البعدين الجمالي والإنساني في أدب الكاتبة الجزائرية. كما تم التركيز أيضاً من جانب معظم المشاركين على حضور الجزائر كثقافة وهوية في خلفية نتاج آسيا جبار. من هذا المنطلق تناولت الباحثة والأكاديمية ميشيل بيرو موضوع المرأة في نتاج جبار، وخصوصاً ذاكرة النساء الجزائريات كما كشف عنها ليس فقط النتاج الأدبي للكاتبة وإنما أيضاً ثلاثة أفلام وثائقية كرستها للحديث عن الجزائر والذاكرة وأحوال المرأة الجزائرية وواقعها المعيشي بخاصة في منطقة الريف الجزائري. ثمة مداخلات أخرى كمداخلة الباحث أرنست بيتر روحييه تناولت موضوع الذاكرة لتكشف كيف أنّ آسيا جبار، بأسلوبها وطريقة التفاتها إلى الذاكرة الجزائرية، استطاعت أن تذهب بعيداً لتلامس الذاكرة الإنسانية بصورة عامة، فيصبح فعل الكتابة عندئذ عابراً للحدود والجنسيات والإثنيات على اختلافها. من الذاكرة إلى اللغة وشعريّتها أيضاً، وهذا ما طالعنا في مداخلات عدة منها مداخلة ميراي جروبار وعنوانها "بين الهُنا والهناك"، ومداخلة جون ماري كلير التي جاءت بعنوان "من تجربة الصحراء إلى الكتابة الهاربة"... كل هذه المداخلات ركّزت على نتاج جبار بجوانبه المتنوّعة، كما ركزت على دور المرأة الجزائرية خلال مرحلة التحرير، وكذلك على دورها في إطار حضور المرأة في منطقة المتوسّط ككل. لم تغفل الندوة التطرّق إلى كتاب آسيا جبّار الجديد وعنوانه "اختفاء اللغة الفرنسية" الصادر عن دار "ألبان ميشال" في باريس والذي أثار منذ صدوره سجالاً لخطورة الموضوع الذي يطرحه، ولكشفه جانباً من سيرورة العلاقة بين فرنساوالجزائر منذ أن نالت هذه الأخيرة استقلالها حتى اليوم. تنطلق الكاتبة في روايتها الأخيرة من قصة العودة إلى الذات وذكريات الطفولة، فتحكي عن عودة منفي جزائري يقيم في فرنسا إلى وطنه الجزائر التي أصبحت ديموقراطية. الرواية عملية بحث مشحونة بالآلام والمفاجآت وتكشف عن استحالة دوام الأشياء بل وضياعها مع مرور الزمن، ومهما طبعت الذاكرة بالذكريات المهمة فهي زائلة لا محالة. لكلّ شيء نهاية إذاً. فبطل الرواية، ويدعى بركان، عاش مرحلة شبابه تحت وطأة الاستعمار الفرنسي كما عايش الثورة الجزائرية، وبعد غياب دام عشرين عاماً في منفاه الفرنسي انفصل بركان عن صديقته الفرنسية ماريز ليعود إلى الوطن. ولا ندري ما إذا كان انفصاله عن صديقته أم اقترابه من سنّ الخمسين هو الذي دفعه إلى العودة إلى أرض الوطن في خريف عام 1991. يعود البطل عازماً على الرجوع إلى أماكن طفولته وذكرياته في الحي الشعبي في "القصبة"، فلا يجد سوى بيوت مندثرة وحي يسكنه التدهور والعنف، ووسط شعوره بضياع كل شيء يعيش بركان قصّة حب جديدة وعابرة مع ابنة وطنه نجيّة. عبر هذه القصّة وتداخلاتها نستدلّ على واقع اللغة في الجزائر. وإذا كان بركان يتساءل عن اندثار الفرنسية كلغة لدى السياسيين الجزائريين، فإنّ جواب نجيّة يأتي من مكان آخر، فهي تعتبر أنّ للأصوليين لغة تحمل كل أصناف العنف والإرهاب، وهي لغة مريضة مهتزّة، لغة لا علاقة لها بالحاضر أو بلغة الأم التي تعبّر عن الحبّ والحنان والقرب. "والوطن أصبح بركاناً" على حدّ قولها. كيف لا ونجيّة فقدت والدها أثناء ثورة التحرير، وهي تقول إنّ هذه الثورة عرفت العنف في المهد، إذ قام بعض العناصر بتصفية أشخاص قياديين وغير قياديين لمجرّد الاختلاف في الرأي، وهذا، بحسب رأيها، "ما يجعل الحوار الديموقراطي الحقيقي مؤجّلاً كما هو مؤجّل مستقبل هذا الوطن"... من جهته، يمضي البطل كما ذكرنا في البحث عن الذكريات، ويحاول وصف زوالها لصديقته الفرنسية ماريز في رسائل لن يرسلها إليها أبداً. وخلال عملية البحث عن زمانه الضائع هذا، يختفي بركان كما اختفى العشرات من الجزائريين، ومن هنا تبدأ كلمة "الخطف" تدوّي في رأس القارئ كالمطرقة وإلى آخر سطر في الرواية. مع الحديث عن كتاب اختفاء "اللغة الفرنسية" وهي الرواية السابعة عشرة للمؤلفة ينعقد الفصل الأخير من الندوة القيّمة التي شهدتها باريس حول نتاج الكاتبة الجزائرية آسيا جبار، وقد أعقبها عرض فيلم وثائقي بعنوان "آسيا جبار: ولادات" من إخراج بيار سمسون، وانطلاقاً من لقاءات وحوارات كانت أجرتها ميراي كالاغروبر، والفيلم من إنتاج "دار الكتّاب" بالتعاون مع "قسم البحوث النسائية" في جامعة باريس الثامنة. مسك الختام في الندوة الباريسيّة كان لآسيا جبّار التي صرّحت قائلة إنّها وضعت كتابها الأخير في فترة لم تتجاوز الشهرين، وذلك إثر إصابتها بأوجاع في الظهر، ما ألزمها الفراش مدّة طويلة. وبالعودة إلى اسمها، واسمها الأصلي فاطمة الزهراء، تقول: "لقد اخترت منذ البداية اسماً مستعاراً كحجاب، فيوم وقّعتُ عقد النشر الأوّل مع دار "جوليار" كان عمري عشرين عاماً، وكان لا بدّ لي من اسم مستعار لئلا يعرف والدي ووالدتي أنني كتبت رواية، فطلبت من خطيبي الذي كان مستعرباً أن يحدثني عن أسماء الرحمن التسعين وكان في كل مرة يقدّم لي المعنى والشرح لكل اسم. وعندما لفظ "الجبّار" الذي يعنى التصلّب والتشبث والعناد، توقّفت عند هذا الاسم الذي أعجبني، واخترته ليكون اسمي بعد أن أضفت إليه آسيا، لأنه جميل ورنّان ولا يتغير النطق به مهما تغيّرت اللغات. وقد أصبح هذا الاسم المستعار لقبي المتداول بين أسرتي وأصدقائي". تضيف الكاتبة موضحة: "لأن الفترة التي نشرت فيها أول كتبي كنت مناضلة في صفوف الطلبة الجزائريين في فرنسا والمناهضين للاحتلال الفرنسي، وشاركتُ في إضرابات الطلبة عام 1956، ما دفع مديرة المدرسة الفرنسية في باريس إلى طردي، فالتحقتُ بصفوف جبهة التحرير كصحافية في جريدة "المجاهد" انطلاقاً من الحدود الجزائرية - التونسية". وبالانتقال إلى عملها الروائي، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ بدايات آسيا جبّار الحقيقية في كتابة السيرة الذاتية. بدأت مع رواية "الحبّ والفانتازيا" التي تمثّل مرحلة أولى لمسيرة أنتجت معها المؤلفة مجموعة من الروايات، "وهذه المرحلة لم تكتمل بعد"، على حدّ قولها. ففي هذه الرواية جمعت وللمرة فصولاً من سيرتها كإنسانة وكاتبة، وتوقّفت من خلالها أيضاً عند علاقتها باللغة وبالموروث الثقافي، سواء ما أخذته من محيطها الأوّل ومن ثقافتها الشفهيّة أو ما نهلت منه، في وقت لاحق، عبر اللغة الفرنسيّة. أمّا عن علاقتها باللغة الفرنسيّة فهي بالنسبة إليها مرادف للتعبير بحريّة عن الداخل والخارج معاً، في حين لا تستطيع التعبير بالعربية الدارجة "إلا في المحيط الحميمي والعائلي فحسب". تقول آسيا جبار ان الكلمة لدى المرأة في مجتمعاتنا التقليدية العربية هي كلمة جماعية تستعمل لدعم أواصر العلاقات العائلية والاجتماعية والدينية. فالكلمة هي صوت الذاكرة لدى المرأة كما هي صوت الجسد في الوقت ذاته. والكلمة لدى المرأة هي كلمة شعرية، ثرية في معانيها ومحتواها، لكنها خافتة لا تتجاوز جدران البيت، ما يجعل الصمت حملاً ثقافياً ضخماً". تعترف الكاتبة آسيا جبار في أكثر من موقع بأنها تتحدث العربية الدارجة في حياتها اليومية مع العائلة، وتعبّر بها في حياتها العاطفية، لكن عندما يتطلب الأمر الحديث عن تجربتها الأدبية يخيل إليها أن التعبير عنها لا يتم أساساً إلا بواسطة اللغة الفرنسية، وهي بذلك تمارس قطيعة داخلية ثانية مع الذات لتضاف إلى القطيعة الأولى المتمثلة في ثقافة وعالم يميز بين المرأة والرجل كما هي الحال في المجتمعات التقليدية. وهذا ما تتناوله في روايتها "واسع هو السجن" وتتطرق فيها الى أنواع عدة من السجون: سجن المرأة الواقعة تحت وطأة التقاليد والمجتمع، سجن المرأة المعاصرة وتحديات الحياة اليومية، وسجن الرجل. ولا تغيب الأحداث الدموية في الجزائر عن هذا العمل الروائي أيضاً والذي تستتبعه بعمل آخر عنوانه: "ليالي ستراسبورغ". وقد جاءت هذه الرواية رداً على صور الموت اليومي التي كانت تتناقلها وسائل الإعلام عن الجزائر. فرؤية أجساد النساء والأطفال الممزقة فرضت على الكاتبة تخيّل العكس، بمعنى عكس ما يجرى في الواقع، فاستبدلت في روايتها أجساد الموتى، موتى الواقع، بأجساد حية لعشاق في حال حبّ شديدة تستمر لمدة تسعة أيام متتالية، لأن الحياة في رأيها أقوى، ولأن السعادة واللذة لا بد من أن تتواصلا. الكتابة بالنسبة إلى آسيا جبار معركة، وهي تخوضها بحثاً عن مساحة أكبر من حرية التعبير وحرية الجسد، كما تقول. ففي كتابها "أصوات تطوقني" وردت العبارة الآتية: "الكتابة طريق يفتح أمامك الأبواب، وهي صمت طويل ينصت إليك، صمت حياة كاملة لا تسعها الكلمات واللغة". وهكذا، ففي عملها الروائي أو السينمائي تلجأ آسيا جبّار دائماً إلى استعمال سيناريو الحبّ والمعرفة تماماً كما استخدمته شهرزاد. آسيا جبار تلقّح رواياتها بعناصر الحب والحكاية والسهر، فمنذ العمل الروائي الأول "العطش" وعبر كل أعمالها الأدبية المتتالية نلمس هذا الهمّ الذي يؤرق شخصياتها ويسكن رواياتها. إنها استراتيجية أنثوية تخترق بواسطتها الكاتبة المجال الذكوري عبر التساؤل المتعدّد الأوجه، وبخاصة ذلك الذي يقدّم المرأة ليس فقط كمقتحمة للمكان بل وأيضاً للفكر، فتتحوّل من خلال الرواية من موضوع منفعل إلى موضوع فاعل قائم بذاته فتطبع العمل بخيالها الأنثوي الخاص. تقتضي الملاحظة أخيراً أن آسيا جبار منحت عام 2000 "جائزة السلام" التي تمنحها "جمعية المكتبات الألمانية" في إطار معرض الكتاب في فرانكفورت اعترافاً بنضالها من أجل تحرّر المرأة العربية، كما تعتبر الجائزة تكريماً لمجموع أعمالها الروائية التي ينظر إليها بصفتها إشارة أمل من أجل عودة الأمن والديموقراطية إلى الجزائر.