كريستيان 30 عاماً حائز دبلوم في الهندسة، طلال 28 عاماً دكتور مع وقف التنفيذ، بيترا 25 عاماً ماجستير في الإعلام، ماريون خريجة حقوق. تعددت الكفايات والنتيجة واحدة، جميعهم عاطلون من العمل! ساد في أذهان الأهل أن تعليم أبنائهم ونيلهم شهادات جامعية عليا في مختلف الاختصاصات، سيكون الطريق الأمثل والأفضل لحصولهم على وظائف ومهن مناسبة وحياة مستقرة. غير أن الواقع الملموس على صعيد سوق العمل في البلاد الغربية أظهر أن نسبة كبيرة من خريجي الجامعات والمعاهد العليا باتوا اول الباحثين عن العمل. هذه الأوضاع دفعت بعضهم إلى محاولة الهجرة إلى بلدان أكثر تقدماً على الصعيد الاقتصادي والمعيشي طمعاً في العثور على الفرصة المنشودة. إلا أن الاحصائات المنشورة اخيراً والتي تتحدث عن تفاقم البطالة في الدول المتقدمة ومن ضمنها البلدان الأوروبية الغربية، تظهر هي الأخرى أن مشكلة الشباب المتعلم والباحث عن عمل لم تعد تقتصر على الدول النامية. فعلى رغم الازدهار الاقتصادي والمعيشي الذي ما تزال الدول الغربية بشكل عام تمر فيه، تبدو مشكلة البطالة المتزايدة في هذه الدول بلا نهاية. في بلد أوروبي صغير هو النمسا، التي لا يتجاوز عدد سكانها الثمانية ملايين نسمة، أصدر مكتب العمل المركزي في بداية هذا الشهر تقريراً تناول فيه التطورات التي حدثت مؤخراً على صعيد البطالة المتفشية في البلاد أظهر أن ثلاثمئة ألف شخص سُجّلوا حتى كانون الأول ديسمبر الماضي عاطلين من العمل. وكان بينهم ما يربو على الاثنين وستين ألف شخص تقل أعمارهم عن 35 سنة. 58 في المئة من هؤلاء الشبان هم من خريجي الجامعات في مختلف الاختصاصات. ويقول كريستوفر ماير المسؤول في هيئة رعاية الشباب الحكومية: "إن النمسا لم تشهد هذه النسبة من الشباب العاطل من العمل حتى في السنوات الصعبة التي مرت على البلاد في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، هذا على رغم أن النمسا عضو منذ عام 1995 في الاتحاد الأوروبي الذي يعد "بالفرج" الاقتصادي من خلال الانفتاح على أسواق جديدة وإيجاد فرص عمل إضافية خارج حدود البلاد التقليدية". وقد حاولت الحكومة النمسوية خلال السنوات الماضية التخفيف من آثار هذه المشكلة من طريق دعم الاستثمار في مشاريع جديدة وتدعيم برامج التعليم والتأهيل المهني للشباب، غير أن أي نتائج إيجابية كبيرة لم تظهر على هذه الصعيد. وتقول بيترا فيينر، حاصلة على ماجستير في الإعلام: "إن مساعي الحكومة ومشاريعها المتخصصة للقضاء على مشكلة البطالة المتفشية في صفوف الشباب، بقيت حبراً على ورق". وتصف واقع الحال بالقول: "إن طريق الأكاديميين من الشباب واحد، يبدأ من قاعة المحاضرات مروراً بالامتحانات ومن ثم يتوج بحفل التخريج ويختتم بالانتظار على قارعة الطريق أمام باب مكاتب العمل". وتوضح الدكتورة شبرينغلر من مكتب العمل المركزي في العاصمة فيينا، أن "من أسباب ارتفاع نسبة البطالة في صفوف الشبان، عدم وجود خبرة عملية سابقة، إضافة إلى أن الجمود الاقتصادي الراهن والنظام الضريبي الصارم يدفعان بالكثير من الشركات الصغيرة، وحتى المتوسطة، إلى إعلان إفلاسها، ما يعني تقلص الفرص في بلد كان إلى عهد قريب يؤمن الوظائف لأبنائه بسهولة". ويعبر فرانس هوبر وهو طالب في السنة الأولى في كلية الطب، جامعة فيينا، عن شعوره بطريقة ساخرة ويقول: "إن الأرقام والاحصائات الخاصة بتزايد أعداد الباحثين عن العمل في صفوف الخريجين الجدد باتت تفزع أكثر من الجثث الهامدة في قاعات التشريح". وبدأت هذه الظاهرة تدفع بنسب متزايدة من الشباب الجامعي إلى المماطلة والتباطؤ في مسيرة تحصيله العلمي، مكرساً وقتاً أكثر للانهماك في أعمال جانبية توفر له مصدراً إضافياً للعيش كالبيع في المتجر والعمل في المطاعم. عقبة أخرى تواجه الأكاديميين اثناء التقدم إلى العمل، هي البند رقم واحد على لائحة الشروط المطلوبة: خبرة عملية لا تقل عن خمس سنوات! هذا النص يضعه كثير من أصحاب العمل الذين يرون في خريجي الجامعات أصحاب "نظريات بالية وطالبي أجور مرتفعة". وتتفاقم المشكلة لدى خريجي الجامعات من أصول أجنبية الذين ينهون دراستهم ويطمحون للبقاء والعمل في البلاد، نظراً لعدم امتلاكهم إجازة العمل، أو جنسية إحدى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، مما يدفع الكثيرين منهم إلى العمل بشكل غير قانوني خصوصاً في المطاعم والمقاهي أو حتى توزيع الصحف على مفارق الطرق وفي محطات المترو. وتردد مريم شيتاك، معدة ومنتجة برامج تلفزيونية من أصل تركي، ما يقوله الكثيرون في بلادنا من أن "إيجاد فرصة العمل المناسبة، بات يعتمد في هذا الزمن على العلاقات أو على الحظ، أما الشهادة الجامعية فضرورية لتحقيق الذات". لكن ما يخفف الأعباء المادية لهذه المشكلة عن كاهل الشباب الأوروبي الباحث عن العمل، هو أن الحكومات الأوروبية أو كثيراً منها، لا تزال تجد نفسها في وضع يسمح لها بمد يد العون إلى الشبان من طريق المساعدات إلى حين العثور على فرصة عمل.