أبقى مع بريد القراء يوماً آخر، وثلاث رسائل بالعربية تلقيتها عبر البريد الالكتروني. الأولى من الدكتور صلاح عزّ، من القاهرة، وأنا مضطر لاختصارها على رغم أهمية الموضوع، لأنها تزيد حجماً على الزاوية كلها. الدكتور عزّ يعود الى درس أوسلو ويقول ان السلطة الفلسطينية لم تتعظ من ذلك الدرس، وأبو مازن ضغط على فصائل المقاومة من أجل وقف الانتفاضة تحت شعار الهدنة اعتقاداً منه ان جورج بوش سيكافئه بدولة فلسطينية على أي رقعة من الأرض. غير ان اسرائيل تعاملت مع هذا الانجاز كأنه لم يكن، وزعمت انه لم توجد هدنة لأن السلطة لم تسحق فصائل المقاومة، وأنها امام خيارين، إما التفاوض مع اسرائيل، أو التفاوض مع المقاومة، اي ان المطلوب من أبو مازن اليوم خيانة شعبه، فهل يصمد كما صمد عرفات من قبل؟ يكمل القارئ فيقول: ان فشل السلطة في استيعاب حقيقة النيات الاسرائىلية تجاه القضية والشعب هو سبب الصدمة التي اصابت مسؤوليها في اعقاب عملية القدس الاستشهادية، وهو ما أدى الى صدور تصريحات هستيرية تهدد وتتوعد ناشطي "حماس" و"الجهاد"، مستندة الى عدم أحقية اي فصيل في فرض أجندته على الآخرين، والواقع ان الأجندة الوحيدة المعروضة على الفصائل الفلسطينية هي أجندة اللابديل، وهي أجندة انهزامية أرى انها السبب الرئيس في ما وصلت اليه الأوضاع اليوم. ويقول الدكتور عزّ ان سلوك اسرائيل خلال الفترة التي تلت الهدنة أكدت ان المطلوب فرضها على الفلسطينيين لتأمين الهدوء للاحتلال والاستيطان والتهويد. والقارئ يقول انه لا يتفق مع من يقول ان المشكلة هي مقاومة "الارهاب"، أو مع من يقول ان المشكلة هي الاحتلال، أو الجامعة العربية وإنما يرى ان المشكلة تكمن في الحكّام العرب والمثقفين العرب، فالحكام عاجزون أمام أميركا واسرائيل والمثقفون عاجزون أمام الحكام. ويختتم الدكتور عزّ رسالته بالقول ان المشكلة في مصر التي تخلت عن المقاومة، وارتضت لنفسها بالدور المسموح لها أميركياً، والذي لا يخرج عن الأجندة الاسرائىلية. أعتذر عن الاختصار وأقول للدكتور عزّ تعليقاً على نقطته الأخيرة ان مصر تحاول، الا اننا نواجه أميركا واسرائيل معاً، وأعرف انها كانت تستضيف بهدوء، ومن دون اعلان، مسؤولين فلسطينيين من مختلف الفصائل في محاولة لانقاذ الوضع. وأكمل بالدكتور أحمد يونس الذي بعث إليّ برسالة تحت عنوان: "كابوس ليلة صيف" ظريفة جداً، الا انني سأختصرها أيضاً لضيق المكان. هو يقول: غالباً ما نصف الواقع حين يبدو لنا فوق الاحتمال بأنه كابوس، لكن الرجل الفقير أقصد المفلّس كاتب هذه السطور له رأي آخر، فقد علّمته الدنيا ان الكابوس كثيراً ما يكون أفضل من الحقيقة. ويكمل شارحاً: ان الكابوس ينتهي باليقظة، أما ما يحدث في العالم العربي منذ لا أذكر كم من السنين، فلا أحد يعرف أين أو كيف أو متى ينتهي... الكابوس المرعب في الوطن العربي من الدار البيضاء الى عدن يبدأ مع اليقظة... يستطيع الواحد في العالم العربي اذاً ان يشكو الى طبيبه النفسي قائلاً انه يعاني في شكل مستمر من كوابيس مفزعة، فاذا سأله عن طبيعتها أجاب انها كوابيس تبدو من شدّة قبحها كالواقع، وعلى أساس ان أول سيناريو شبه سينمائي شهده الانسان عبر تاريخه كما تخيلت دائماً هو الحلم، فلماذا لا يحاول التقاط صورة بالأشعة لهذا الكابوس الذي يستمر عرضه الآن بنجاح منقطع النظير من المحيط الى الخليج؟ هل شاهد الناس في الواقع شيئاً آخر على امتداد نصف قرن؟ الدكتور يونس يضيف: الشيء المؤكد ان من أقوى مقومات الوحدة العربية هذا الكابوس المشترك منذ أكثر من 50 عاماً، والحلقوم العربي لا يتردد مرّة واحدة في ابتلاع شتى أنواع الاهانات، والأطفال يذهبون الى الكتاتيب والمدارس ليتعلموا ما يريده الحكام، ويتغذوا على نشرات أخبار توقف النمو عن مدن تسقط في أيدي الغزاة، وقرى تباد، ومخيمات لاجئىن تستقبل كتلاً بشرية أخرى لا تملك من دنياها الا الرعب... أكثر من 50 عاماً والبسطاء يراقبون بنظرات منكسرة كيف ان مندوبي المحتل وسماسرة الشركات المتعددة الجنسية يلوّحون الى المعتدي لكي يسرع في بدء العدوان، ويستحلفون القاتل الا يكف عن القتل، ويهدونه وسام الشجاعة ومفاتيح البوابات المغلقة، و"خريطة الطريق"... والناس يولدون ويدفعون الضرائب ويؤدون الخدمة العسكرية ويسمعون كلام الحكومة... أكثر من 50 عاماً والمشهد العربي هو نفسه ثابت لا يتغير. القارئ ينهي رسالته الراعبة باقتراح كاريكاتور على شكل خريطة وطن يبعث على البكاء. ووجدت الزميلة لبنى الصاوي، في رسالة من مصر، غاضبة بدورها وتقول: يوماتي على الله، يصدمنا هذا التحوّل العجيب. كثيرون يقفزون من التبعية القديمة لموسكو الى التبعية غير المشروطة لمولانا العم سام، الأمر الذي يثبت ان السيد قد يتغير ولكن العميل يظل هو نفسه، لا يهمه من يمتطيه. ما الفرق... وبعد ان تتحدث الأخت لبنى عن الشيوعيين الذين ساندوا اسرائيل سنة 1948، والأميركيين الذين ساندوها بعد ذلك، تكمل قائلة: نسي الرفاق ان هناك شعباً يقتلع من أرضه أو يباد على أيدي غرباء جاؤوا من كل فج عميق، ولا تربطهم بفلسطين الا ترسانة الخرافات اليهودية، وان ظلماً تاريخياً بشعاً ارتكب، كما نسي رعاة البقر ان الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان وكل ما يتشدقون به هو أول ضحايا هذا الورم السرطاني الخبيث، والعمالة أصبحت مباشرة لليهود ومنظماتهم المعلنة أو السرية، والمشروع الصهيوني على أرض العرب بمباركة أميركية وروسية... أقول "أعوذ بالله"، كأنه لا يكفينا بؤس الأخبار حتى يضاعف منه تعليق القراء والقارئات عليها.