لا تزال قدرات المرجع الشيعي الأعلى، علي السيستاني، في صنع القرار لغزاً. قليلون هم الذين يعرفون حقيقة ما يجري في منزله، الذي يقع في زقاق قديم، يخضع لحراسة مشددة، في مدينة النجف الشيعية المقدسة، حيث يعيش في عزلة فعلية، بعد سنوات الإقامة الجبرية، خلال حكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين. وعلى الرغم من كثرة أتباعه، إلا أنه بقي بعيداً من الإنخراط المباشر بالسياسة. تدخلاته في الوضع السياسي كانت نادرة منذ الغزو، الذي قادته الولاياتالمتحدة عام 2003. إذ اكتفى بالدعوة المتكررة خلال فترات العنف الطائفي في البلاد بين عامي 2006 و2008، إلى التهدئة. وتُعدّ مواقف السيستاني "مسموعة" في الوسط الشيعي العراقي. اذ نأى بالمرجعية (النجف في العراق) عن الميل إلى طرف دون آخر، في الساحة الداخلية. إلا أنه في أواخر عام 2003 تدخّل في السياسة للمرة الأولى، داعياً العراقيين إلى المشاركة الكبيرة في الاستفتاء على الدستور، الذي أعقبه تشكيل أول حكومة انتقالية. وبعد مرور عام على ذلك، تدخّل مرة أخرى لإنهاء المعركة بين جيش المهدي، الذي قاده الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، والقوات الأميركية في عام 2004. وفي الوضع الراهن، بعد هجوم "داعش"، وجّه السيستاني دعوة ضمنية إلى رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي كي يتنحى عن رئاسة الحكومة، وطالب البرلمان بالانعقاد في المواعيد الدستورية، لتشكيل "حكومة تحظى بقبول وطني". ودعا منذ أيام على هجوم التنظيم، العراقيين من كل الطوائف إلى "مقاتلة داعش"، موضحاً أنه "إذا لم يتم طرد هذه الجماعة الجهادية المتطرفة من العراق، فسيندم الجميع غداً"، ومعتبراً إياها "جماعة تكفيرية، وبلاء عظيماً، ابتُليت بها منطقتنا". وكانت للسيستاني مواقف عدّة أطلقها عند استحقاقات مختلفة في التاريخ القريب للعراق، إذ قال مع بداية الغزو الأميركي للعراق إنه "إذا كان هناك حاجة إليهم (أي الأميركيين) فليكن عملهم بإشراف الأممالمتحدة، لا (أن يكون وجودهم في العراق على نحو) قوات احتلال". اما بما يخصّ المسألة الكردية، فدعا إلى "عدم التخلي عن مدينة كركوك المُتنازع عليها بين العرب والأكراد"، مؤكداً أنه "لا يسمح بدمجها أو بيعها، لأنها نفس كل عراقي، مهما يكن اعتقاده الديني، وأن موضوعها غير قابل للنقاش، أو مسموح بطرحه". وقال إن "ثروات العراق يجب ألا تُقسّم بين أشخاص سمحوا لأنفسهم بالتحدث باسم العراق، وهم يسعون لتقسيمه وفق المصالح الخاصة". أما ما يتعلق بمسألة الفتنة الطائفية، فقال إن "هذا العمل مرفوض تماماً"، موضحاً أن "لا صراع دينياً بين الشيعة والسنة في العراق، بل هناك أزمة سياسية، ومن الفرقاء من يمارس العنف الطائفي، للحصول على مكاسب سياسية، وخلق واقع جديد، بتوازنات مختلفة (...) يُضاف إلى ذلك ممارسات التكفيريين الذين يسعون إلى تأجيج الصراع بين الطرفين، ولهم مشروعهم المعروف". وبما يخصّ مسألة الدستور العراقي الجديد، أوضح أن "أصل الفيدرالية ونوعها المناسب للعراق يجب أن يقرّره الشعب العراقي، عبر ممثليه المنتخبين"، مشيراً الى أن "الإسلام هو دين غالبية الشعب العراقي، وإذا كُتب الدستور بأيد منتخبة من قبل العراقيين، فمن المؤكد أنّه ستُمثّل فيه قيم الإسلام، وتعاليمه السمحاء". مشدداً على أن "دستور على أساس فكرة ولاية الفقيه، ليس وارداً". ورأى في موقفه من موضوع الانتخابات الرئاسية العراقية الأخيرة أن الشعب العراقي قرّر مصيره بنفسه "من طريق إجراء الانتخابات"، ودعا مقلّديه إلى "المشاركة في التصويت"، باعتبارها "واجباً شرعياً". يُشار إلى أن السيستاني وُلد في إيران، في مدينة ارشاد، عام 1930، وبدأ دراسته الدينية في عمرالخامسة، وأصبح أعلى مرجع ديني شيعي في العراق، في العام 1992. ******* * إعداد: صهيب أيوب وهادي نعمة