"وطني الأول هو عدو وطني الحالي" فأي وطن هو الأول؟ وأيهما الثاني؟ ثم اي النماذج تملك وطنين وانتماءين، احداهما عدو للآخر؟ هذا ما حاول المخرج العراقي "سمير" البحث عنه في فيلمه التسجيلي الطويل "إنس بغداد" الذي نال الجائزة الأولى في مهرجان لوكارنو، وكذلك في مهرجان روتردام الأخير. اشتهرت افلام المخرج، التي حملت اسمه الأول فقط، بطرحها لإشكالية البحث عن الهوية... وفي هذا الفيلم نراه يبحث عن حالة ازدواجية خاصة لم يجدها إلا في اسرائيل، او بالأحرى لدى عرب اسرائيل العراقيين الذين كان سمع عن بعضهم من والده المنتمي الى الحزب الشيوعي في الماضي، إلا ان احداً من هؤلاء لم يتعرف الى والده! من العراق الى تل ابيب استطاع المخرج من خلال شخصيات فيلمه سامي ميخائيل، موسى حوري، شمعون بلاص، سمير نقاش رصد تاريخ العراق وواقعه الاجتماعي والثقافي والسياسي... حتى بداية الخمسينات من القرن الماضي وقرار الهجرة الى تل ابيب، التي يرصد في المقابل واقعها حتى اليوم، منتقلاً في ما بعد الى جيل آخر متمثل في شخصية إلاحبيا شوعات التي ولدت في اسرائيل، لكن منشأها ومحيطها العربي كانا سبباً في معاناتها ما اضطرها الى الهجرة الى نيويورك والعمل كأستاذة للجامعة هناك... وصولاً الى الحاضر الذي يرويه المخرج بلسانه موضحاً واقع العراق اليوم لمعرفته به وبحداثته واختلافه عما يصوره الإعلام. وإن كان مقيماً في سويسرا كون والدته من هناك وكذلك واقع اسرائيل اليوم واختلاف الوضع عن السابق سواء من منطلق الضرورة السياسية، او نتيجة الاختلاط بين اليهود الشرقيين والغربيين. لم يأت الفيلم سرداً للتاريخ، بل إعادة صوغ للماضي وأحداثه، وإضاءة جوانب ربما لم نلتفت لها سابقاً، فالمنظور هنا انساني في الدرجة الأولى لذا لا بد من اعادة تقويم لا للتاريخ، بل لمواقفنا التي "يجب ان تعتمد الموضوعية وليس الانفعال العاطفي فقط". حاول المخرج العودة بالشخصيات الى ايام الطفولة التي اضحت اليوم ذكريات فقط، ومن ثم الحياة اليومية وطبيعة المجتمع العراقي الذي لم يكن متعصباً لأي دين بل وشديد الاختلاط بعضه ببعض، منتقلاً الى الحياة الثقافية النشطة آنذاك وإلى الجانب السياسي لأشخاصه وانتمائهم الى الحزب الشيوعي، الذي كان خيارهم الوحيد ضد فكرة الصهيونية، خصوصاً بعد 1948 وقرارات الأممالمتحدة، وتآمر الدولة مع الحركة الصهيونية - وفقاً لما قالته الشخصيات - والضغط على اليهود، وحوادث "فرهود" والانفجارات، ومحاربة الدولة لهم كشيوعيين واعتقالهم، اضافة الى عدم تفرقة الشارع بين اليهودي والصهيوني... كل ذلك جعل من الهجرة ضرورة لا مفر منها، وإن كانت غير مطروحة كخيار في السابق، لكن ماذا بعد الهجرة؟ وما مدى معاناة العرب اليهود في اسرائيل؟ هذا ما اوضحه الفيلم مستخدماً الوثيقة في عرض المخيمات التي وضعوا فيها، والأعمال والمهن اليدوية التي عملوا بها على رغم ثقافتهم وقدراتهم العلمية التي تفوق اليهود الأوروبيين... إلا انهم عوملوا كعرب منبوذين، الى ان ثاروا او أضربوا فقيل لهم "طردنا عرباً جيدين وأحضرنا يهوداً غير جيدين". لم تكن شخصيات الفيلم عادية، بل مثقفة ولها تجربتها السياسية، وإن اختلفت تجاربهم، جميعهم عمل في الصحافة، ولمعظمهم مؤلفات وكتب بالعربية والعبرية، باستثناء سمير نقاش الذي كتب دائماً بلغته الأم العربية، فالعبرية غريبة عنهم تعلموها في بداية الخمسينات مع حضورهم الى تل ابيب. وليست اللغة الغريبة فحسب، بل الأمور كافة، فهم يحملون ثقافة وعادات وتقاليد وذاكرة مختلفة تماماً عن المحيط الذي اصبحوا فيه، فكيف تعاملوا مع المشكلة؟ نماذج متعددة لكل نموذج طريقته في التعامل مع المشكلة، وعلى رغم الاختلاف كانت النتيجة بقاءهم في تل ابيب باستثناء إلاشوعات. لذا نجد في الفيلم جيلاً اتى الى تل ابيب وجيلاً ولد فيها، منهم من اندمج ومنهم من يأس ومنهم من هاجر... موسى حوري مثلاً، نموذج تعامل بواقعية شديدة، وأكد ضرورة "حب الوطن الحالي" و"الإيمان به للدفاع عنه والاندماج فيه"، وهذا ما حدث فكان اقل ازدواجية من الآخرين. بينما يعاني سامي ميخاييل من هذه الازدواجية لكنه يتعايش مع الوضع من اجل مستقبل ابنائه، فإن كان هذا الوطن غريباً عنه، لن يكون كذلك على ابنته التي ولدت فيه، فهو وطنها. كذلك الأمر لدى شمعون بلاص الذي استسلم بحزن لواقعه، ولو كان الخيار بيده منذ البداية لهاجر الى فرنسا. اما سمير نقاش فهو يعاني عدم اندماجه، وكرهه لهذه الدولة التي ظلمته واضطهدته، هو يائس تماماً وحزين من الوضع الإنساني والسياسي... لذا ألّف روايته الأخيرة "لا أمل في إنقاذ الإنسان". ربما كانت إلاشوعات نموذجاً مختلفاً، فقد ولدت في اسرائيل، لكن محيطها كان عربياً وتحديداً "بغدادياً" وشعرت بالتفرقة العنصرية بين اليهود الشرقيين والغربيين منذ طفولتها، ورأت في الهجرة خياراً افضل. المخرج كمراقب خارجي يطرح باستمرار وجهة نظره ورؤيته الحالية للحاضر، فهو يرى ان اسرائيل تداركت الموضوع وأدخلت اليهود الشرقيين في مجالات عدة ومناصب سياسية واجتماعية، حتى الطعام الذي كان مرفوضاً اصبح معروضاً في الشوارع... لكنهم على رغم ذلك يشعرون دوماً بالتفرقة. اذ يعاملون في اسرائيل كعرب، كما كانوا يعاملون كيهود في العراق... هذه الازدواجية في المكان والانتماء وفي اللغة، داخل المنزل وخارجه، في العائلة نفسها الجد عربي، الأب اسرائيلي... حتى المشاعر اختلطت حين ضربت اميركا العراق، وضرب صدام حسين صواريخه على اسرائيل... فكلاهما وطن. نظام الثنائيات هذا سحب على الشكل ايضاً طوال الفيلم، فالشاشة مقسومة الى نصفين، الى اليسار تظهر الشخصيات وتتحدث ربما لأن توجهها يساري بينما الفتاة تظهر في النصف اليميني لاختلافها عنهم. في النصف الآخر لدينا صور تتداخل مع الشخصيات، تعبر عن الماضي، التاريخ المسجّل، الذكريات، الانفعالات الداخلية عينا الشخصية ويداها...، وجهة نظر المخرج... اي لدينا موضوع نسمعه على لسان الشخصية ونراه في المقابل من اكثر من زاوية خصوصاً ان المخرج في بداية الفيلم وفي الكادر نفسه عرض وجه الشخصية وفي النصف الآخر، صورة جانبية لها، وكأننا امام صورة تؤخذ لمتهم مشتبه به سيدلي بشهادته، ولكن تتكرر الصورة في شكل مختلف حين تجلس إلاشوعات امام التلفاز متوجهة بالنظر إليه، تعرض لقاء تلفزيونياً اجري معها حول كتابها "السينما الإسرائيلية" ومدى العنصرية الموجودة في اسرائيل، فتتحول الى حال فرجة: بين الواقع المحكي وبين المسجّل، بين الماضي والحاضر... وصورة الشخصيات دائماً غير مكتملة، ربما ينسجم هذا مع ازدواجية عالمهم الداخلي. او ان ما نراه ليس إلا نصف حقيقة او وجهة نظر. وفي النصف الآخر تعرض الوثائق لتأكيد ما يقال... كما يقابل ثبات الشخصية والكاميرا اثناء الحديث، حركة وغلياناً في عرض الأحداث في النصف الآخر. لكن هل يتكامل النصفان؟ ربما تداخلا من وجهة نظر المخرج وصولاً الى اليوم، إذ اصبحت الصورة مكتملة فنرى الشخصيات في مشهد اخير كاملة تغيب في الزحام في مجتمعها الحالي. الصورة كوثيقة ربما كان الهدف الأساسي من وجود هذه الثنائيات في الشكل الفني هو التوثيق، سواء من خلال عرض الصور الفوتوغرافية القديمة، او المواد الإخبارية المسجلة او استخدام الكلمة كصورة، او عرض مشاهد منتقاة من افلام مصرية فيها شخصية يهودية، وكذلك مشاهد عدة من الفيلم الإسرائيلي "صالح شاباتي 1964" الذي اعتمده المخرج كوثيقة لإثبات ما يقال عن التفرقة والعنصرية، وكل تفصيل عُرض بشكل مختلف عن الآخر. فالصور الشخصية المتعلقة بالذكريات يجعلها المخرج تدخل حيز الشخصية بشكل مائل وحميمي، وكذلك الانفعالات الداخلية المتمثلة بالعيون والأيدي. اما الكلمات والشعارات التي نادوا بها فقد اصبحت من الماضي الاشتراكية، الوطنية، القمع... لذا تمر من الخلف وتتلاشى بسرعة، اما المواد الإخبارية والتاريخية فهي في حيز منفصل تماماً في مربع محدد وكأنه شاشة تلفزيونية، اما المقاطع المأخوذة من الأفلام فقد اختارها بعناية وكأنه يضيء لنا مشاهد يريدنا الالتفاف لها ورؤيتها بعين المكتشف، لذا كانت المشاهد تُعرض وكأن المخرج يضيء بالمصباح بقعة معينة من الصورة غير محددة الأطراف. وهذا استخدام جديد لفكرة السينما داخل سينما من حيث الدلالة في الشكل والمضمون. فالمخرج كما إلاشوعات يؤمن بدور السينما ومدى فاعليتها وتأثيرها في المتفرج. يرغب ان يسمع العالم العربي ويقرأ لأسماء مثل سامي ميخاييل، سمير نقاش، شمعون، كما يرغب بأن تسمع اسرائيل لهم. وأن فُقد الأمل في عودة بغداد كما كانت... فما زال الأمل موجوداً في كسر الحواجز وإلغاء العنصرية، من طريق السينما والفن، ليعود كما كان في السابق، ونرى الشخصية اليهودية في الأفلام كما في السينما المصرية قديماً راشيل مثلاً وإن اقتصر دورها على الرقص والإغواء... "إنس بغداد" ليس فيلماً يعرض اشكالية ما فقط، بل هو محاولة لجعل المتفرج يطرح على نفسه جملة من التساؤلات... فهل سيتعامل معها بشكل موضوعي بعيداً من اي خلفية مسبقة؟ وسينظر لها من وجهة نظر انسانية، ليفهم افعال الآخر وردود افعاله؟!