أليس في هذا العالم المتمتع بالهيمنة الاميركية من يستطيع ردع هذا الوزير الاسرائيلي، او إقفال فمه على الأقل. مجرم الحرب شاؤول موفاز لا يتحدث في هذه الايام الا عن "طرد" الرئيس الفلسطيني. وحتى لو لم يكن ياسر عرفات رئيساً بأي حق يتكلم هذا المجرم عن طرد انسان موجود على ارضه. انه يلعب حالياً، بنذالة فائقة، على التناقض المكشوف بين عرفات و"ابو مازن"، مستغلاً الارتباك الاميركي في العراق، واستعداد الرئيس الاميركي لدخول حملته الانتخابية التي يجعلها الوضع العراقي صعبة اكثر فأكثر. يتّبع موفاز اسلوباً بات تقليداً اسرائيلياً بتكرار الحديث عن هدفه المقبل لكي يرسخ في الأذهان وكأنه تحقق فعلاً، حتى اذا اقدم عليه تكون ردود الفعل تحت السيطرة. طوال الفترة الماضية ركز شارون وعصابته على ان عرفات هو المشكلة، كما لو ان اسرائيل مستعدة لسلام حقيقي اليوم قبل الغد الا ان هذا الرجل يقف حجر عثرة امامها. وعلى رغم الكذبة الشائعة الآن بأن شارون وعصابته موافقان على "خريطة الطريق" الا انهما استطاعا قتل "الخريطة" وهما ينفّذان الآن خطة إلقاء مسؤولية قتلها على الرئيس الفلسطيني. صحيح ان عرفات لم يعد قادراً على ممارسة السلطة كما كان، الا ان حصاره والتهديد بتصفيته او بطرده واستخدام حكومة "ابو مازن" لإطاحته جعلته رمزاً وطنياً للفلسطينيين، وصار أسره في مقره اختصاراً لحالة الاسر التي يعيشها الشعب بعدما حوّل الاسرائيليون فلسطين الى معسكر اعتقال كبير. عرفات ليس نهاية المطاف للقضية الفلسطينية لكن مصيره بات يعني الكثير بالنسبة الى مستقبل شعبه. للفلسطينيين مآخذ عليه وعلى اسلوبه في ادارة السلطة، وهي مختلفة عن مآخذ الاسرائيليين الذين ربطوا انتصارهم بفرض "شروط السلام" مع ادامة الاحتلال بالتخلص منه ومن مشروعه. لا شك ان الانتصار الاسرائيلي تحقق جزئياً عبر الشرخ الكبير الذي توصلوا اليه داخل اسرة السلطة الفلسطينية، الى حد ان معسكري "الرئاسة" و"الحكومة" يخوضانها كأنها معركة "كسر عظم". لكنها معركة اذا مضت الى نهايتها، لن ينتصر فيها سوى المجرمين شارون وموفاز. لم يكن هناك داع حقيقي لأن يجعل "ابو مازن" من المجلس التشريعي ساحة تحدٍّ، ولا داعي لمسألة طرح الثقة طالما ان انجازات ملموسة لم تتحقق، ولا داعي للاستنجاد بالقنصل الاميركي للضغط على اعضاء المجلس طالما ان مثل هذه الاساليب يشحذ الاحقاد اكثر مما يساعد في تسجيل نقاط، ولا مجال للرهان على اريحية بوش او شارون طالما ان النيّات واضحة ولم يحصل "ابو مازن" على اي "مجاملة" جوهرية او حتى اي دعم يحفزه على تحدي مشاعر شعبه. في الحسابات الاسرائيلية والاميركية بالتبعية تشكل نهاية عرفات نهاية لعباس. قبل ذلك، لا بأس باستخدام هذا ضد ذاك، والسؤال في النهاية هو من يأتي بعدهما وكيف، ولدى الاسرائيليين سيناريوات جاهزة لتفتيت المناطق وتفتيت القضية وتقزيمها على مقاس "الخلفاء". كان ذلك متوقعاً منذ تلفّظ الرئيس الاميركي بقرار مقاطعة عرفات وعدم التعامل معه، وكانت تلك اكبر "هدية" من بوش الى شارون. ومذذاك اصبح واضحاً لدى الاميركيين والاسرائيليين ان صعود "ابو مازن" الى رئاسة الحكومة يعني نهاية عهد عرفات. لم يكن منطقياً اعتماد رئيس الحكومة على انه الرئيس، لمجرد ان الاسرائيليين والاميركيين بالتبعية شاؤوا ذلك. والأسوأ ان يتعمّد هؤلاء معاملة رئيس الحكومة كأن بينهم وبينه أجندة سرية. الأكثر سوءاً ان الفلسطينيين، في "المعسكرين"، لم يجتهدوا لوضع قواعد سلوك تجنّبهم صراعاً كالذي نشهده الآن، بل تركوا الأمر في عهدة الحكمة اليومية، فكانت النتيجة ان الرئيس ورئيس الحكومة دخلا في تنازع صلاحيات ورجال ومؤسسات. طبعاً، هناك من يعتقد بأن ثمة فرصة سنحت لعرفات كي يترك السلطة طوعاً، وكان هذا يتطلّب اتفاقاً واضحاً بينه وبين رئيس الحكومة، لكن الواقع على الارض اكثر تعقيداً من ان يتيح مثل هذه الخطوة. لا شك ان هناك تضحية مطلوبة، ولا بد ان تتم بشكل يشعر الفلسطينيين بأنها تقدم اليهم وليس الى شارون او موفاز او بوش.