غادرنا إدوارد سعيد وبقي فينا. في طريقنا الى وداع جسده، لم أستطع مقاومة فكرة أننا ذاهبون كما اعتدنا دائماً للقائه، وكأن قوة الحياة في إدوارد سعيد أكبر من موته. كان دائم التجدد وحاسماً في شجاعته الفكرية. جسد أفضل نموذج للمثقف المبدع والمفكر الخلاق الذي لا يخاف من نتائج حرية فكره في عصر امتلأ بالخوف والتخويف والتملق ومداهنة الأقوياء. ولم يكن هناك مثال على ما دعا اليه في كتابه "صور المثقف" من ضرورة الاستقامة الفكرية والنزاهة الشجاعة للمثقفين الملتزمين أفضل من سلوكه نفسه. وكم يحتاج المثقفون بل كل من يستطيع فك الحرف التعلم من ذلك... وكم يحتاج الإنسان العربي، كي يحرر نفسه من حصار وقيود استعباد أجنبي تراكمت فوق قيود من الاستبداد الداخلي، الى فهم ادوارد سعيد الذي لا يعرف المراوغة ولا التورية ولا الهرب من واجب قول الحقيقة. انتمى الى فلسطين عبر انتمائه للإنسانية، وغدا أفضل من مثّل الشعب الفلسطيني من دون منازع، لأنه لم يصل فلسطين من منطلق التعصب القومي بل من بوابة الإيمان بالعدالة والإنسانية وحق الشعوب، كل الشعوب من دون تمييز. ولذلك لم يكن على استعداد للقبول بمساومة أوسلو، ليس تعصباً بل لأنها كانت مساومة على الحق والعدل ومناورة أصحاب المصالح على حساب مصالح الشعوب. ندين له بالكثير، وتدين له المبادرة الوطنية الفلسطينية بأنه آمن بها وسبق الصفوف وخاطر بالدفاع عنها والدعوة لها طريقاً لاستنهاض الشعب الفلسطيني وإنارة مشعل الحرية والديموقراطية الفلسطينية، عندما كان البعص يتردد أو يجري حسابات الربح والخسارة واحتمالات النجاح والفشل، أو يقبع أسيراً في قيود الماضي. كنا نشعر بأنه في سباق دائم ومتسارع مع الزمن نحو الإنجاز يحركه شعور عميق بثقل المسؤولية والواجب الملقى على كاهله، وقلق المبدع بأنه يستطيع أن يعمل أكثر وأفضل. وقد جمع بشكل مذهل بين انضباط المثقف الملتزم واندفاع العالم الباحث. وأمنيتنا أن تلتقط الأجيال الشابة هذه الصفات وتستعيد ما استعاده ادوارد سعيد من تراث أمتنا من صفات البحث الدؤوب عن الحقيقة والسعي المتفاني من أجل الاتقان. كان منطلقاً من دون قيود أو ضوابط في حرية البحث والتفكير والإبداع وغدا قائداً فلسطينياً عربياً وعالمياً ليس بقوة السلاح أو حجم السيطرة على الموارد المادية، بل بقوة الفكر وبقوة النفوذ الأخلاقي الذي صنعته استقامته وحبه للناس وتعطشه من دون حدود للمعرفة واكتشاف كل ما هو جديد في الناس والأشياء. ولن يغيب ادوارد سعيد، فالذين يغيبون هم الذين يمثلون الماضي حتى وهم أحياء، أما ادوارد فيمثل المستقبل، المستقبل الذي نحلم به لنا ولأولادنا ولأحفادنا ولوطننا المكتوي بآلام تبدو كأنها لا تنتهي. لن يغيب إدوارد لأنه حليف بفكره وابداعه ونموذج حياته للمستقبل، ولحب الحياة والنهم لعيشها بالكامل. لم يحتمل جسد ادوارد سعيد روحه المتوقدة، ومع ذلك فقد سيطرت تلك الروح العظيمة على الجسد المنهك بالمرض، وتعاظم إبداع إدوارد سعيد في أشد أوقات المعاناة التي كان يكره ذكرها. ولا توجد هنا كلمات تكفي لوصف بطولة زوجته مريم وأبنائه في دعم ذلك الإبداع. وإذا كان الموت قهر جسد ادوارد سعيد فإن ادوارد قهر موته الى الأبد بخلود فكره وعطائه. لذلك نودع اليوم الجسد ويبقى ادوارد معنا سعيداً حياً ومبدعاً دائم التجدد. أما وفاؤنا له فبمواصلة تلك المسيرة التي شق دربها بشجاعة، وتحقيق حلمه في جعل المبادرة الوطنية رافعة تستنهض قضية الشعب الفلسطيني، لعلنا نرد له ولوطننا بعض الجميل. * سكرتير المبادرة الوطنية الفلسطينية.