لا توافق بين فرنسا والمانيا من جهة وبريطانيا من جهة اخرى. اذاً لا توافق بينهما وبين الولاياتالمتحدة. الوضع في العراق ينتظر قراراً جديداً من مجلس الامن، لكن مضمون هذا القرار لا يزال تحت الدرس. هناك مشروع اميركي يشكل اساساً للنقاش، الا انه لم يرضِ احداً باستثناء الحليف البريطاني الجاهز دائماً للموافقة. كانت قمة برلين مناسبة يتعرف خلالها جاك شيراك وغيرهارد شرودر الى "جديد" قد يكون طرأ على اقتناعات توني بلير، نظراً الى متاعبه الداخلية والمشاكل التي يواجهها الامر الواقع الاميركي البريطاني في العراق. لكن بلير لا يستطيع ان يقدم سوى ما يسمح له به جورج بوش، مهما بالغ في شطارة الكلام، خصوصاً انهما شريكان في المأزق وان حاول البريطانيون باستمرار اظهار شيء من التمايز عن النهج الاميركي. كان الاوروبيون راهنوا لفترة على محاولات رئيس الوزراء البريطاني لجعل الطروحات الاميركية اكثر عقلانية، وانتهوا الى انطباع بأنه فشل في المهمة، أو انه خدعهم، او الى مزيج من الاثنين. وفي أي حال فإن بعض ما يعانيه بلير داخلياً هو ايضاً بعض ما يعانيه اوروبياً. من حق شيراك وشرودر، اللذين تعرضا لحملات دعائية قذرة، ان يتفرجا الآن، وان يشهرا شماتتهما، فقد حصل في العراق ما توقعه الجميع قبل الحرب، خصوصاً ان الولاياتالمتحدة صمّمت حربها على اساس احتلال البلد وليس تحريره، والا لكانت دعت مسبقاً الى مشاركة دولية، ولكانت ارتضت مسبقاً التحرك تحت مظلة الاممالمتحدة، ولما تعجّلت المراحل وأخضعت الأجندة الدولية لأجندة اميركية محورها الانتخابات الرئاسية المقبلة. لكن شيراك وشرودر لا يعارضان الآن المشاركة في اعباء العراق، بل يريدان لبلديهما دوراً وحضوراً في مستقبل العراق، إلا أنهما يعارضان ان تبدو مشاركتهما التحاقاً متأخراً بحرب رفضاها، او اعترافاً بالهيمنة الاميركية ورضوخاً للاهداف الاميركية غير المعلنة من وراء تلك الحرب. من هنا الإصرار على نقل مبكر للسيادة الى العراقيين. فالمجتمع الدولي لا يستطيع ان يضع نفسه، جنوداً واموالاً، في خدمة قوة الاحتلال. كما انه لا يقبل بأن تجرّه الولاياتالمتحدة من حرب الى حرب لمجرد ان تياراً يمينياً متشدداً في واشنطن يسيطر على القرارين العسكري والسياسي معاً. ولعل مثل هذه الاعتراضات لا يقتصر على فرنسا والمانيا، بل هو عالمي، بل يفترض ان يكون عربياً اذا كان لا يزال هناك ما يسمى "نظام اقليمي عربي". فالاحتلال الاميركي للعراق مشكلة لم يبدأ العراقيون بعد بتحسّس خطرها الحقيقي، لكنه خطر اقليمي واضح. الاحتلال ابرز الانقسامات والتناقضات العراقية الداخلية، ويحاول الاستفادة منها في الوقت الذي يتوجب عليه حلها او اقامة تعايش اصيل في ما بينها. لكن تلاعبه بالانقسامات والتناقضات الاقليمية يشي بعدم حرصه على حل مشاكل الداخل العراقي. ليست فرنسا والمانيا في صدد شن حملة ديبلوماسية على الولاياتالمتحدة بسبب احتلالها للعراق، فهما شاطرتاها المواقف المبدئية من النظام السابق وتمنتا اطاحته، وكانتا مستعدتين للمشاركة في تحالف دولي لو ترك مسار الاممالمتحدة ليأخذ مجراه الطبيعي، ولو ببرنامج زمني لا يناسب تماماً روزنامة الادارة الاميركية. هناك حاجة الآن الى مساهمتهما، اذاً هي فرصتهما لاعلان الشروط. عملياً لعبت الدول العربية اللعبة نفسها، حتى لو لم تكن دولاً كبرى، وكانت لها مساهماتها في الحرب، الا ان التطورات تستدعي منها وقفة اخرى طالما ان الاحتلال سينعكس عليها سلباً، اقله في عدم الاستقرار الذي يشيعه في المنطقة. صحيح ان هناك "ثوابت" اذا جاز التعبير عربية وُضعت في اطار الجامعة، الا ان السوابق الكثيرة جداً برهنت ان أي عاصمة لا تلتفت الى تلك الثوابت عندما تمارس سياستها الخارجية، وبالاخص عندما تتعرض لضغوط اميركية ولا يساندها احد. أضعف الايمان اذاً ان تتمسك الدول العربية بثوابت الشرعية الدولية لأنها تبقي لها مكاناً ومكانة على الخريطة، الى جانب اكثرية دول العالم، أما الرضوخ الدائم للضغوط فلا ينفك يهمّش العرب ويقصيهم عن الصورة.