زارني أدونيس في شقتي في باريس صيف عام 1957 ولم يجدني فترك لي العدد الأخير اذ ذاك من مجلة "شعر" وكان مكرساً للثورة الجزائرية المستمرة منذ 1954، وألقاه بعد أيام فأقول: هلا أسعفتني في قراءة شعر مجلتك؟ فوعدني ولم يبر بوعده إلا بعد حوالى أربع سنوات إذ وافق وهو بالعادة يرفض على اقامة امسية شعرية في دمشق وكنت قد عدت اليها. علاقتي بالرجل قديمة نسبياً ترقى الى الخمسينات من القرن الماضي. غالباً ما كنت ألقاه في المقهى أو المطعم حيث يلتقي اعتيادياً المثقفون. المسافة بيني وبينه كبيرة، لا لأنه طالب في قسم الفلسفة وأنا مدرّس إذ كنت أجعل من طلابي أصدقاء، بل لأنني أنتمي الى "العربي الاشتراكي" وهو ينتمي الى حزب يستدعي الانسان كله ويستأثر به، هو "الحزب السوري القومي الاجتماعي". ومع ذلك فقد توطدت بيننا صداقة أقوى من الزمن والاحزاب، وينتقل أدونيس الى بيروت في ظروف استثنائية، حيث يحضّر اطروحة دكتوراه على موضوع جعله كتابه كلاسيكياً هو "الثابت والمتحول". لم نكن يومها نميّز بين بيروتودمشق فأنا هنا وهناك، وكل مرة اجدني في بيروت أحرص اكثر ما أحرص على ان ألقى أدونيس ونجلس معاً في مقهى بجانب البحر ونتحدث في ما نعتقد انه مشكلات المرحلة الراهنة. وكنا يومها قد تجاوزنا المواقع الحزبية الضيقة. لم يخيّب فك الوحدة بين مصر وسورية ظني، فلم أفرح له ولم أحزن. ما آلمني هو ان الوحدة العتيدة كرّست الانقلاب العسكري كوسيلة للحكم في طول الوطن العربي وعرضه وفي العديد من البلدان المتخلفة، لزمن طويل. ... كانت قد صارت أعداد مجلة "شعر" تصلني بانتظام الى دمشق ومعها مطبوعات المجلة وبينها مجموعة وليد اخلاصي القصصية الأولى التي لم اكتم اعجابي بها. على أية حال فإن قراءتي لشعر مجلة "شعر" وبياناتها النظرية وحرصي على حضور الامسيات الشعرية لشعرائها، جعلت شعرهم أليفاً عندي، وليسمح لي القارئ ان أشير الى واحدة من هذه الامسيات لأنها تعبّر بالصورة الأوضح عن موقف الجمهور من شعر مجلة "شعر" والشعراء الذين ساروا على دربها. كان اتحاد الكتّاب بدمشق قد دعا محمود درويش لأمسية شعرية على مدرّج كلية الهندسة وهو الأوسع بين مدرجات جامعة دمشق، يمتلئ المدرج قبل وصول الشاعر بساعة، فلولا آذن الاتحاد لما وجدت مقعداً اجلس اليه. ويعتلي الشاعر المنصة فالصالة وقوفاً تصفق وتنادي سجِّل... سجِّل... اشارة الى مقطوعة الشاعر المعروفة "سجّل أنا عربي". فيرفض ويصرّ على الرفض اكثر من مرة والحضور - وفيه الكثير من الشباب الفلسطيني - يؤكد: سجِّل. فينسحب الشاعر. وبعد أخذ ورد طويلين وافق الحاضرون على ان ينتقي الشاعر ما يطيب له ان ينتقي، فينتقي مقطوعة "الرمادي" الطويلة نسبياً. الحق اننا كلنا كنا نفضّل ان يؤكد شاعرنا مرة بعد مرات عروبة فلسطين. الا ان انتقاله الى بيروت جعل عدوى مجلة "شعر" تصيبه. لقد خيّب الشاعر ظن مستمعيه، فإيقاع شعر مجلة "شعر" لا يستثير التصفيق والجمهور لا يمكن ان يؤكد وجوده الا بالتصفيق. وأترك القاعة وأنا أتساءل من دون ان أتمكن من الاجابة عن سؤالي: أهو ايقاع الشعر قد تبدّل أم ان ايقاع الحياة العربية قد بدأ يتبدل؟ بين المتنبي وهيجل وأقرأ الستين مقطوعة شعرية التي اختارها سليمان العيسى من شرح اليازجي لديوان المتنبي، ويقدم لها بنص رائع لصدقي اسماعيل بعنوان "تجربة المتنبي" فأرى بعد تأمل طويل ان المتنبي قد أنهى في القرن الرابع للهجرة الشعر العربي كما أنهى هيجل الفلسفة في القرن التاسع عشر ميلادي ف علم المنطق لهذا الأخير هو المقابل ل ميتافيزيقا أرسطو، وفيه استعاد هيجل مقولات الميتافيزيقا التي شكلت مادة الفلسفة الكلاسيكية بعد ارسطو "الوجود والعدم، الجوهر والعرض، الماهية والوجود... واستنفد محتواها، فلا بد للفلسفة بعد هيجل من ان تكتشف او تُبدع طرقاً جديدة تمكنها من مواصلة تقدمها، وأول طريق شقها ماركس، الثانية برغسن... فالاثنان الكبار هوسول في الفينومينولوجيا وهيدجر في البحث عن الوجود دوماً موجود ومفقود. ومفارقة المتنبي انه آخر الجاهليين. انبثق من البادية وأتى الى المدينة حيث دفع الى حدودها القصوى، بعنفوان الجاهليين وبفطرتهم الشعرية المبدعة. فكان عندما يمدح سيف الدولة، وهو عنده أمير امراء تلك المرحلة، يقف منه موقف الند للند. ما من شك في ان القرون الأربعة التي تفصل بين المتنبي والجاهلية، قد شهدت تطورات جذرية في الوجود العربي منها نشوء العواصم العربية الكبرى للسياسة والثقافة ومنها دمشق، حلب، بغداد، الكوفة، البصرة... وهذه استدعت ثورة النواسي على البادية: عاج الشقي على طلل يسائله وعجت على خمارة البلد... وصار الشعر مع أبي تمام والبحتري وإبن الرومي وغيرهم يُكتب ويقرأ ويُنشد، لقد تركت القرون الأربعة المدنية هذه بصماتها على المتنبي، جعلته يلهث وراء الثروة. الا انه كان يتجاوز المدنية ومستلزماتها وملوكها وأمرائها عندما ينشد الشعر فتعود اليه فطرته تزيدها حضارة المدن غنى وإرهافاً. وبكلمة فإن الجاهلية بوصفها شعراً تجاوزت ذاتها مع المتنبي، ولكنها مع المتنبي أيضاً بدأت تخسر تدريجاً الى ان تلفظ انفاسها. وبالفعل، فبعد المتنبي صار الشعر العربي محاكاة، وأحياناً محاكاة المحاكاة حتى ولو كان الشاعر من مستوى عمر ابو ريشة أو محمد مهدي الجواهري او بدوي الجبل وغيرهم. هؤلاء وغيرهم نصفق لشعرهم حتى في أيامنا لأنه يستجيب للبدوي الكامن في كل عربي بشدة الى الوراء في عصر تفجير الذرة والصعود الى القمر... فرهان مجلة "شعر" هو انهاء عصر المحاكاة الممتد على قرون. ويبدو لي انها بدأت تكسب رهانها. فهي تشكل بهذا المعنى منعطفاً حاداً في تاريخ العرب الثقافي يستجيب لحاجتنا الى ثورة ثقافية تضعنا بمستوى القرن الواحد والعشرين. مهيار: دوماً في الطريق الى عالمه عندما فاجأني أدونيس ب"أغاني مهيار الدمشقي" الصادر عن دار مجلة شعر لعام 1961 وحاولت سبر اغواره بقراءة مقطوعة هنا وأخرى هناك، كان شعر مجلة "شعر" قاد صار اليفاً عندي. لقد أربكتني قراءة "اغاني مهيار" ولكنها اشعرتني بأن مجلة "شعر" دعوة الى بناء عالم انساني يفجّر الذي نحن عليه، وان هذه الدعوة بدأت تتحقق في مجموعة مهيار الدمشقي. فمَن هو مهيار؟ ما دوره؟ ما الفسحة التي يتحرك ضمنها؟ ما الانسان الذي يكوّنه ويبشر به؟ ما الدلالات التي توجهه؟ ... ما المعنى؟ لم يكن أدونيس في يوم من الأيام كوسموبوليتياً بحيث يختار اسماً فارسياً مهيار وينسبه الى دمشق. أدونيس متجذر في أرضه، تراثه، تاريخه... منه ينطلق ليطوف العالم والعالم يعيده الى نقطة انطلاقه. فنيويورك عنده تستدعي بيروت، ودمشق تحيل الى واشنطن... مهيار هو كل ابطال أدونيس: الصقر وتيمور، معاوية، والحجاج، المتنبي وسيف الدولة الحمداني، الحسين واسماعيل الذي نبذته كل قبيلة... مهيار هو ادونيس، يهجر تاريخه الأليف، مهيار هو الشاعر "يكلم الأشياء"، "يغيّر الفصول" وحنينه دوماً الى دمشق التي ينتسب اليها، لكن دمشق خانته خانت أمية أهله فيجب ان يشتمها: اسألها - دمشق لا تجيب / لا تنقذ الغريب / يا امرأة الرفض بلا يقين / يا امرأة القبول / يا امرأة الضوضاء والذهول / يا امرأة مليئة العروق بالغابات والذهول / ايتها العارية الضائعة الفخذين يا دمشق / ومع ذلك فهو يحبها ويفديها / يا حب، لا... / عفوك يا دمشق / لولاكِ لم أهبط الى الاغوار / لم أهدِم الأسوار تحولات الصقر، 45، 56، 57 في "تحولات الصقر" يصير شعر أدونيس ملجمياً. وفي "الرأس والنهر" يصير مسرحياً. وفي الملحمة، كما في المسرح ميتافيزيقا. انهض، اناديك، عرفتَ الصوت. / أنا أخوك الخضر / أسرج مهر الموت / أخلع باب الدهر تحولات، 101 ويعلن الرأس الذي يطفو على وجه الماء: / انني لحظة المعجزات / لحظة الموت والحياة / وأيضاً / وكان موتي لاجئاً / في فجوة الزمان، كان لاجئاً / يضيء مثل كوكب يضيء / وكان موتي فوهة الزمان، كان الوعد والمجيء / قلتُ: أهوَ مهيار هنا الحسين الشهيد؟ / صوت من الماء، يقول الصوت: / مات / لكي ينهي عهد الموت الرأس والنهر 390، 384، 400. هذه مقولة الجوقة. كان أدونيس قد لاشاها مسبقاً في جو شبه ضبابي. مملكتي تليس وجه الماء / أملك في الغياب / املك في الدهشة والعذاب / وعندما يعلن الرأس: / حديث الاسماء والأشياء تحولات، 102، 103. فتعلن الجوقة مع الرأس / لا أعرف التخوم لا تحدني الشطآن / تحدني علامتان / وها أنا أطوف كي أزلزل الحدود، كي أُعلِّم الطوفان / ويعلن الشيخ الحداد على وفاة مهيار / نامت الدنيا على الحيطان / ستة أيام بلا ضياء / واستسلم الزيتون والتفاح... للدموع الرأس والنهر، 400، 402. عالم أدونيس على العموم سلسلة تحولات تصير استحالات. فكل شيء يمكن ان يصير كل شيء. دمية تدخل بغتة من النافذة، تحمل الجدران الأربعة وتمشي بيت يحضن دفتراً ويركض حافياً الى المدرسة وداعاً يا انقاضي. فصل الحرائق، 225. بين المصادفة والمعنى عالم أدونيس عوالم. كل واحدة من مجموعاته الشعرية، احياناً كل فقرة من المجموعة عالم خاص، له فسحته، ايقاعه، ابطاله، وقائعه، دلالاته... ومعناه لكأن الصور تتدفق تلقائياً من خياله المبدع وتتجمع لتشكل كلاً يتحرك ويحركك معه فأنت له بكليتك. أدونيس تراثي مع التراثيين عالمي - عولمي اذا شئت - قبل العولمة. قارئ يلتهم الكتب، مشاهد يلتهم الأحاسيس. فرصيده ثراء على ثراء، وعندما يوظّف شطراً من هذا الرصيد يجسّده بحيث تكاد تلمسه أبصابع يديك. ومن ثم فإن العلاقة الجسدية التي خصّها بفقرة طويلة من مجموعته "التحولات" حاضرة اكاد اقول باستمرار في شعره: أغلقتُ باب غرفتي مع النجمة الأولى أسدلت الستارة الوحيدة ونمت مع رسائلها وها وسادتي مبللة والكلمات حبالى. تحولات العاشق، 146 أدونيس وحده قادر على التأليف بين عوالمه بحيث تشكل كلاً موحداً له معناه. وربما انه وضع الكتاب بأجزائه الثلاثة لهذا الغرض. أقول ربما لأنني لم أقرأ بعد الجزء الثالث وهو الأهم. في مقطوعة شعرية بالفرنسية عنوانها فسحة ادونيس يقول كولنيك شيخ شعراء فرنسا في القرن العشرين: أدونيس، الى أين تمضي بي؟ أنت تأخذ من ذاتك أشياء تنشرها تجعل منها فسحة تغرزني فيها حتى لأكاد أقول انك ترميني وسط عناصر تشكل عالماً استحالاته مستمرة عالم يخصب ذاته بالفرح فعبثاً أبحث فيه عن حدود وتخوم. هذا كلام شاعر قرأ ادونيس مترجماً أُعجب به، عاشه استأثر به سحر بيانه فخاف منه ان يبتلعه فاعتذر منه وانسحب عائداً الى فسحته الخاصة. ونحن الذين نقرأ ادونيس ما فسحته عندنا؟ ليس من السهل الجواب عن هذا السؤال. ادونيس يفترسك عندما تحاول الاحاطة به للكشف عن الغاز فسحته التي تُفلت منك بسرعة وتبدو لك وكأنها تلغي ذاتها باستمرار. هاك على سبيل المثال بداية اغاني مهيار التي ظهرت عام 1961. يُقبل أعزل كالغابة وكالغيم لا يُرَد، وأمس حمل قارة ونقل البحر من مكانه ... انه فيزياء الأشياء يعرفها ويسميها بأسماء لا يبوح بها. انه الواقع ونقيضه، والحياة وغيرها ص13 لغة سريالية هي لغة بيكاسو وأندريه بروتن وسلفادور دالي، وأيضاً هي لغة فاتح المدرّس وأحمد معلا، لغة فن القرن العشرين، تستمد قوامها الصحيح عندما تصير لغة الجسد، والعلاقة الجسدية هي عرس الجسد. وصلت، / رأيت الجبل بحراً والبحر أشجاراً مسحورة / جسدكِ مدينة / طلع منها الخدَم صفوفاً صفوفاً تحت مغاور العنق 135، تحولات العاشق. * مفكر سوري. * غداً حلقة ثانية أخيرة.