في السابع عشر من أيلول سبتمبر 1978 دخل الصراع العربي - الإسرائيلي تاريخاً جديداً مع توقيع اتفاق كامب ديفيد كونه الاتفاق الأول من نوعه بين أكبر دولة عربية مصر واسرائيل والذي أسس للتوصل الى معاهدة السلام المصرية - الاسرائيلية في 26/3/1979، وافتتح نهجاً رفضناه في البداية ثم اعتدنا عليه شيئاً فشيئاً حتى بلغنا مرحلة الادمان، وأصبحنا نلح في طلبه ونبذل ما نملك من أجل ديمومته على رغم ما يسببه لنا من أوجاع وعلى رغم ما يلحقه بنا من مهالك ودمار. فقد جابهناه بفورة حماسية رفضية وقذفناه بأقذع الشتائم ورميناه بكل ما نملك من أوصاف خيانية، لكن فورتنا سرعان ما هدأت وتبددت بعد سنوات قلائل لنكتشف الآن بعد مرور 25 عاماً ان ذلك النهج حفر انفاقاً في الواقع العربي الرسمي وجرف دولاً وأنظمة سواء في شكل افرادي أو جماعي نحو الاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات ديبلوماسية واقتصادية وربما أمنية معها وهي لا تزال ترفض الانسحاب مما احتلته عام 1967. وثبت جيداً أن نهج كامب ديفيد ما زال موجوداً وتطور الى ما هو أسوأ عبر السنوات ال25 الماضية وربما مستقبلاً الى ما هو أكثر سوءاً: نحو تحالف دول عربية مع اسرائيل ضد دول عربية. لم تكن العلة في كامب ديفيد بقدر ما كانت ولا تزال في الأنظمة العربية التي لم توحد ارادتها ولا قدراتها من أجل صيانة الحقوق والدفاع عنها لا في فلسطين ولا في غيرها، ولم تتحد على رغم كل الويلات السابقة والماثلة حالياً في رؤية استراتيجية واحدة للحيلولة دون استمرار الهزائم والنكبات ودون الغرق في ديبلوماسية استجداء السلام والاندفاع نحو محالفة الأعداء ضد الأشقاء. ان نظرة الى أبرز ما قرره القادة العرب في مؤتمرات القمة منذ 1964 وحتى الآن تبين ان ما حصل عام 1978 كان لا بد من ان يحصل، وان ما حصل بعدها جاء مكرساً السياق ذاته بعمق واتساع واندفاع أكبر. إذ اكتفى القادة بالشعار الكبير من دون عمل كبير أو حتى صغير، واعتمدوا برامج ومبادرات جاءت متأخرة دوماً ومحتاجة الى الصدق والصراحة والشجاعة في القول والفعل. في القمم الثلاث الأولى تحدث القادة العرب عن القضاء على اسرائيل وتحرير فلسطين. ففي الأولى اعتبروا "ان قيام اسرائيل هو الخطر الأساس الذي أجمعت الأمة العربية بأسرها على دفعه" وأكدوا ضرورة الاستعداد العسكري العربي الجماعي بصفته "الوسيلة الأخيرة للقضاء على اسرائيل نهائياً"، وأقروا في الثانية "خطة العمل العربي الجماعي في تحرير فلسطين"، واتفقوا في الثالثة على "الخطط العربية لتحرير فلسطين"، لكن اسرائيل فاجأتهم عام 1967 وهم عاكفون على تلك الخطط بعدوان احتلت فيه سيناء والضفة الغربية وقطاع غزة والجولان ما يعادل ثلاثة أضعاف اسرائيل. وعندما اكتشفوا ان لا قدرة لهم على تحرير فلسطين وأنهم بالكاد يستطيعون تحرير ما احتل عام 1967، وهو ما قرروه في قمة الخرطوم في أيلول سبتمبر 1967 تحت عنوان "ازالة آثار العدوان" مرفقاً باللاءات الثلاث الشهيرة: لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض. وحاولوا ازالة تلك الآثار بالفعل في حرب تشرين الأول أكتوبر 1973، إلا انهم لم يستطيعوا ذلك وكادوا يخسرون مزيداً من الأراضي واضطروا بعدها الى توقيع اتفاقات فصل للقوات مع اسرائيل في "مقابل الانسحاب من بعض الأراضي" للحيلولة دون وقوع حرب أخرى معها. وعلى رغم فشلهم في تحرير تلك الأراضي في حرب تشرين وفشلهم السابق في تحرير فلسطين ولئلا يظهروا بمظهر المتنازل عن شعار أو هدف تحرير فلسطين، اعتمدوا في قمة الجزائر في تشرين الثاني نوفمبر 1973 أهداف المرحلة الحالية للنضال العربي المشترك المتضمنة التحرير الكامل لجميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967 بما فيها القدس العربية، وكانوا بذلك يقرون بفشلهم في تحرير هذه الأراضي في حرب تشرين، وفي الوقت ذاته وردت في البيان الختامي الصادر عن تلك القمة أول اشارة الى السلام مع اسرائيل، وشرطاه: الانسحاب الكامل واستعادة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني مع أول تأكيد من نوعه من جانب الملوك والرؤساء العرب لاستعدادهم للمساهمة في تحقيق سلام عادل على أساس هذين الشرطين. وأعاد القادة الحديث عن تحرير جميع الأراضي المحتلة عام 1967 بعد عام في قمة الرباط 1974 مع اضافة تقول بعدم قبول أي محاولة لتحقيق أي تسويات سياسية جزئية انطلاقاً من قومية القضية ووحدتها. عقدت القمة التالية في بغداد في تشرين الثاني 1978 بعد زيارة الرئيس المصري الى القدس عام 1977 وتوقيعه اتفاقات كامب ديفيد، وبعد اعلان قيام جبهة الصمود والتصدي إثر زيارة القدس وعقد قادة دولها ثلاث قمم متتالية في بغداد. وخصصت بالدرجة الأولى لتأكيد رفض نجاح كامب ديفيد وكل ما يترتب على تلك الاتفاقات ولاقرار التوجه بعزل مصر ومقاطعتها عربياً. وأكد البيان الصادر عن القمة الالتزام بالأهداف المرحلية المرسومة سابقاً مع اشارة عابرة الى تحرير فلسطين. وتابع القادة الحديث عن تحرير الأراضي المحتلة عام 1967 في قمة تونس 1979 مع تأكيد ان قضية فلسطين هي جوهر الصراع الطويل الأمد، وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي تحدثوا فيها عن تحرير تلك الأراضي في مؤتمرات القمة، إذ امتنعوا عن استخدام كلمة تحرير واستبدلوها بالدعوة الى انسحاب اسرائيل من تلك الأراضي اعتباراً من قمة عمان 1980. واللافت في هذه القمة تأكيدها ان قرار مجلس الأمن الرقم 242 لا يتفق مع الحقوق العربية ولا يشكل أساساً صالحاً لحل أزمة الشرق الأوسط. وكانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي يذكر فيها القرار 242 بهذه الصيغة منذ صدوره عام 1967. فالقمة التالية في فاس 1982 لم تأت على ذكر هذا القرار لا سلباً ولا ايجاباً على رغم اقرارها بما عرف باسم مبادرة السلام العربية ببنودها الثمانية التي دعت الى انسحاب اسرائيل من جميع الأراضي المحتلة عام 1967 ودعت مجلس الأمن الى وضع ضمانات السلام بين جميع دول المنطقة. مع عقد قمة عمان 1987 بدأ الحديث بوضوح أكبر عن السلام وعن مفهوم تسوية سلمية عادلة وشاملة للنزاع العربي - الاسرائيلي، شرط استرجاع كل الأراضي العربية المحتلة عام 1967 واستعادة الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني. وازداد هذا الحديث توتراً بعد عودة مصر الى مؤتمرات القمة العربية اعتباراً من قمة الدار البيضاء 1989 التي نص بيانها الختامي بوضوح على "تسوية سلمية شاملة وعادلة للصراع العربي - الاسرائيلي على أساس قراري مجلس الأمن الدولي الرقم 242 و338 وكل قرارات الأممالمتحدة ذات الصلة". ففي قمة القاهرة 1996 التي عقدت بعد عقد مؤتمر مدريد 1991 والتوصل الى اتفاق أوسلو 1993 والتوقيع على معاهدة السلام الأردنية - الاسرائيلية 1994، وبعد أن أوقفت اسرائيل العملية السلمية على المسارات الفلسطينية والسورية واللبنانية، بدأ القادة العرب استخدام صيغة جديدة تقول إن تحقيق السلام الشامل والعادل يستوجب انسحاب اسرائيل الكامل من الأراضي التي تحتلها تنفيذاً لقرارات مجلس الأمن 242 و338 و425 ومبدأ الأرض في مقابل السلام، وبدأوا بدعوة اسرائيل الى استئناف المفاوضات على كل المسارات دون ابطاء. والأهم انهم قرروا في هذه القمة جهاراً ان تمسكهم بمواصلة عملية السلام - على رغم عدم تمسك اسرائيل بها - لتحقيق السلام العادل والشامل هو هدف استراتيجي عربي يستوجب التزاماً مقابلاً تؤكده اسرائيل بجدية ومن دون مواربة! وذهبوا الى أبعد من ذلك عندما هددوا اسرائيل بإعادة النظر في الخطوات المتخذة تجاهها إن هي أخلّت بمبادئ العملية السلمية. إلا ان هذا التهديد لم يجد طريقه الى التنفيذ الجاد على رغم نسف اسرائيل العملية السلمية وليس فقط الاخلال بمبادئها. في القمة التالية في القاهرة عام 2000 دان القادة عدم استجابة اسرائيل خيار السلام وعدم سعيها نحو السلام الشامل والعادل في جدية وفقاً لقراري مجلس الأمن 242 و338 وأكدوا رفضهم أي محاولة لفرض سلام غير عادل ولا متوازن! بل أكدوا أيضاً - في ضوء انتكاسة عملية السلام - التزامهم التصدي الحازم لمحاولات اسرائيل التغلغل في العالم العربي تحت أي مسمى والتوقف عن اقامة أية علاقات مع اسرائيل، وواصلوا في قمة عمان 2001 تأكيد تمسكهم بالسلام الشامل والعادل وحذروا - من دون أن يوضحوا الجهة التي يحذرونها - من عواقب تنصل الحكومة الاسرائيلية من الأسس والمرجعيات والمبادئ الاسرائيلية الرامية الى الانفراد بمسار دون آخر، والمضحك - المبكي ان القادة دعوا الى التنسيق العربي، ولم ينسوا التأكيد ان اقامة السلام العادل والشامل تتطلب بادئ ذي بدء الانسحاب الاسرائيلي الكامل. عندما اكتشف القادة ان تحذيراتهم لم تجد نفعاً، اضطروا الى إعلان مبادرة سلام جديدة في قمة بيروت 2002، أكدوا فيها تمسكهم بالسلام العادل والشامل هدفاً وخياراً استراتيجياً، وطالبوا اسرائيل بإعادة النظر في سياساتها وأن تجنح الى السلم، معلنة ان السلام العادل هو خيارها الاستراتيجي أيضاً. وأعربوا في مبادرتهم عن استعداد الدول العربية لاعتبار النزاع العربي - الاسرائيلي منتهياً والدخول في اتفاق سلام مع اسرائيل ولإقامة علاقات طبيعية في إطار سلام شامل معها إذا وافقت على الانسحاب الكامل من جميع الأراضي العربية المحتلة منذ 1967 تنفيذاً لقراري مجلس الأمن 242 و338 وعلى اقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة عاصمتها القدسالشرقية، وإذا تم التوصل الى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتفق عليه وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 194. وعادوا في قمتهم الأخيرة في شرم الشيخ 2003 الى تأكيد تمسكهم بهذه المبادرة مع تحميل اسرائيل مسؤولية فشل جهود السلام! يطرح هذا الاستعراض تساؤلات لا حصر لها مثل: هل قدم السادات لإسرائيل عام 1978 و1979 أكثر مما قدمته أطراف عربية عدة خلال السنوات الماضية وأكثر مما عرض القادة العرب تقديمه لها في قمة 2002؟ لماذا لم يقدم القادة عرضاً كهذا قبل عشر أو عشرين أو ثلاثين سنة؟ وماذا سيقدمون من عروض بعد خمس أو عشر سنوات إذا لم تستجب اسرائيل استجداءاتهم الحالية للسلام معها؟ هل يأتي يوم يقررون فيه اقامة السلام مع اسرائيل والتحالف معها بزعم ان ذلك هو السبيل الوحيد لاقناعها تالياً بالانسحاب من تلك الأراضي أم أنهم سيتناسونها كما تناسوا فلسطين وغيرها؟ * كاتب فلسطيني.