"إسرائيل الدولة العسكرية بامتياز لا تريد لأي قوة عسكرية ملموسة في المنطقة أن تكون قادرة على تهديد نشاطها العسكري ذي الدائرة المتسعة". هذا هو العنوان الرئيس الذي يمكن إستخلاصه من خلفية الخبر الذي أوردته وكالات الأنباء في الثالث من الشهر الجاري، نقلاً عن إذاعة الدولة العبرية، ومفاده أن "إسرائيل طلبت من الولاياتالمتحدة الضغط على السعودية لتحريك سرب من طائراتها المقاتلة اف-16 المقصود "اف-15" من قاعدة تبوك الملك فيصل الجوية، حيث تمركزت هذه الطائرات للمرة الأولى أثناء مرحلة الإعداد للغزو الأميركي الأخير للعراق". وادعت أن "عقد بيع هذه الطائرات يتضمن شرطاً بعدم نشرها بالقرب من إسرائيل". وغالباً ما تلجأ الدولة العبرية الى هذا الأسلوب مستهدفة إبعاد أي تهديد ولو محدود يعترض نشاط قوتها الجوية المعادية والخارج على القانون الدولي في المنطقة. فحين تطلب دولة عربية مهما إبتعد موقعها كالكويت والإمارات سلاحاً من الولاياتالمتحدة، ينطلق على المسرح الأميركي بما فيه الكونغرس، جدل محموم ومساومات يقودها اللوبي اليهودي والمتعاطفون مع الدولة العبرية، مستهدفاً التأثير في مسار ذلك الطلب، أو محاولاً الحد من قدرات بعض أنظمته وتفاصيل تسليحه أو تحديد إستخدامه ونشره. وتكون هذه السياسة حتى ضد دول ترتبط معها إسرائيل بمعاهدة سلام كما هي الحال مع مصر، اذ اعترض الإسرائيليون حين حاولت مصر الحصول عام 2001 على صواريخ سطح- سطح متقدمة من نوع "هاربون". وتعزز إسرائيل قدراتها بمثابرة، مستخدمة قوة بشرية مؤهلة وتقاليد عسكرية قتالية متراكمة، تدير عبر عقيدة عسكرية مدروسة ومتجددة، منظومات متماسكة ومتكاملة من الأسلحة، تدعمها قاعدة صناعية متطورة ومجدية إقتصادياً، تجعلها القوة الأولى عسكرياً في المنطقة، مرتكزة إلى قوة سياسية تدار بفعالية وتضعها خارج إطار القانون الدولي في حالات كثيرة، ممتهنة صناعة الحرب باحتراف منذ ما يزيد على نصف قرن. واضافة الى الأسلحة غير التقليدية ومنها النووية، تمتلك الدولة العبرية وسائل إيصالها بواسطة طائرات مقاتلة أحدثها F-15I، تمتلك السعودية أسراباً عدة من الطراز نفسه وهو F-15S مع اختلاف في التجهيزات، والتي يمكنها بمساعدة طائرات التزود بالوقود والوصول إلى أي نقطة في الشرق الأوسط والعالم العربي. كما تضم القوة الجوية الإسرائيلية سلسلة متقدمة جداً من منظومات الإسناد الإلكتروني وذخائر إخماد دفاعات العدو الجوية، وأخرى متنوعة لمهاجمة أهداف مختلفة التحصين والحجم وبمدى وتوجيه متعدد المسافات والأنماط. ومارست إسرائيل منذ تأسيسها بنجاح استخدام القوة الجوية في مهمات إستراتيجية وتكتيكية، ما أكسبها خبرة وثقة عالية، ولديها خطط استراتيجية كبرى تهدف منها الى التحول قوة استراتيجية عسكرية عظمى، ومن تلك الخطط خصوصاً قدرة الضربة الاستراتيجية النووية التالية، بواسطة غواصات نووية تمتلك خاصية التخفي، بعد حصول بحريتها على غواصات "دولفين" الألمانية الصنع والمجهزة بصواريخ نووية غير معروفة النوع على التحديد، ما يجعلها في مصاف أربع أو خمس دول في العالم تمتلك هذه القدرة. في الجانب الآخر تمتلك السعودية قوة جوية ناشئة ومتميزة في المنطقة، ومع أنها لم تُختبر منفردة في حرب شاملة، إلا أنها أثبتت في أكثر من مناسبة أن لديها قدرة على تحقيق تفوق تكتيكي. ومن تلك المناسبات حمايتها لمجالها الجوي أثناء الحرب العراقية - الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي حيث أسقط طيارون سعوديون طائرتين إيرانيتين، كما صدت الكثير من محاولات إختراق أجوائها من سلاح الجو الإيراني، وساعدت في ردع الكثير من الإختراقات الحدودية من قبل بعض جيرانها في أزمات ماضية. في أزمة الخليج وحرب الخليج الثانية، أبلت القوات الجوية السعودية بلاء حسناً مكتسبةً خبرات قيمة أثناء تنفيذ عملياتها المشتركة مع قوات التحالف خصوصاً الأميركية، وشكلت طائرات الإنذار والقيادة "أواكس" وطائرات التزود بالوقود، مع أسراب مقاتلات "أف-15" فريقاً فعالاً، يساعد على تغطية المساحات المتباعدة لأجواء منطقة عملياتها. وتمتلك القوات الجوية السعودية عدداً جيداً من أسراب المقاتلات "أف-15"، بنموذجيها F-15C الأقدم منذ عام 1982 والمصمم لمهمات القتال والسيطرة الجوية، والأحدث F-15S منذ عام 1996 والمصمم لمهمات متعددة خصوصاً العمليات الهجومية العميقة، والقادر على حمل ما يزيد على سبعة أطنان من الأسلحة الهجومية مع أسلحة القتال الجوي. ومن المعروف أن السعودية دأبت على تطوير قوتها الجوية في شكل جيد لجهة الكم والتنوع. فبرامج عمرة الطائرات وتطويرها تتم محلياً، كما أن هناك برامج لتطوير المحركات والإلكترونيات، جعلت من هذا الإسطول جاهزاً طوال مدة خدمته للقيام بمهماته ضمن القوات المسلحة، ويُشغل بواسطة أطقم جوية وأرضية مؤهلة جيداً. ومن المرجح أن الطائرات المنتشرة في قاعدة تبوك والواقعة في الركن الشمالي الغربي من السعودية هي من طراز القتال والسيطرة الجوية F-15C، وهي في الغالب مجهزة صواريخ متوسطة المدى من نوع AIM-7 سبارو، وقريبة المدى من نوع AIM-9 سايدوايندر، اضافة الى السلاح الداخلي وهو الرشاش 20 ملم. كما أن السعودية أوصت على صواريخ متطورة ستعزز في شكل كبير من قدراتها القتالية، من طراز AIM-120 آمرام طال انتظاره، يمنح قدرة "اطلق وانس" للطيار، وقدرات الإشتباك المتعدد والفعال لمسافة تصل إلى بعد الستين كيلومتراً. ولا شك في أن التغطية والتعاون الأميركيين يمدان اسرائيل بجرأة لتوسيع دائرة نشاطها البعيد والمبرمج، جنوباً وصولاً إلى سواحل مضيق باب المندب، وفي أجواء المياه الدولية للبحر الأحمر حيث استخدمت هذا الممر كمنفذ إلى شرق أفريقيا في عملية عنتيبي الشهيرة في أوغندا عام 1976، عندما واكبت مقاتلاتها F-15C طائرات النقل لحمايتها في مهمتها لنقل القوات الخاصة، أو نشاطها فوق مناطق تعتبر نقطة ضعف، كمنطقة إلتقاء حدود السعودية والعراق والأردن بسورية، وهي المنطقة التي نفذت منها لضرب المفاعل العراقي عام 1981. وتحرص إسرائيل بلا كلل على ألا تعيق أي قوة جوية مرورها في إتجاه الهدف أو عودتها، أو أثناء إعتيادها خرق سيادة أجواء الدول المجاورة كلبنان، وفي حالات نادرة ربما خرق أجواء سورية والأردن والسعودية ولو بطائرات الإستطلاع من دون طيار. لذلك فان للسعودية مصالح حيوية في أن تنشر هذا النوع من الطائرات في أي من قواعدها، للحفاظ على سيادتها وحماية منشآتها ومراكزها الحيوية، وعدم ترك إسرائيل - أو غيرها - طليقة في تنفيذ عمليات إختراق لتنفيذ مهمات إستطلاعية أو هجومية. كما يخول القانون الدولي السعودية وغيرها الحق في مساندة أي دولة تربطها بها إتفاقية ملزمة للدفاع المشترك عن سيادتها. وفي عقود سابقة اخترقت الطائرات الإسرائيلية المقاتلة والإستطلاعية الأجواء السعودية، وتعاملت معها المملكة بالوسائل السياسية، وإنتهت هذه الإختراقات ربما بالكامل عندما أكملت السعودية بناء منظومات جوية ودفاع جوي في تلك المنطقة. ويُطرح تساؤل حالياً عن نيات إسرائيل حيال المملكة في هذه المرحلة، اذ لا تخفي الدولة العبرية تذمرها من السعودية سواء من الناحية السياسية أو العسكرية. فسياسياً تتهم اسرائيل السعودية بدعم الفلسطينيين وبرفض إقامة علاقات معها، كما أنها في الآن ذاته تؤثر في دول أخرى لتنسيق مواقف مقاربة في هذا الشأن ضمن محيطها السياسي الحيوي. ومن الناحية العسكرية، لدى السعودية قوة صواريخ إستراتيجية قادرة على إلحاق الأذى بوسط إسرائيل، فيما لو قررت الرد على تجاوز إسرائيل الخطوط المشعلة لنوع من هذه السيناريوهات. كما أن لديها قوة جوية قادرة على تنفيذ مهمات هجوم جوي على أهداف إسرائيلية بالغة الأهمية. ومع ذلك فإن تطورات من هذا النوع مستبعدة في الظروف الراهنة، وفي ظل العلاقات والتوازنات في المنطقة والتي تؤثر فيها الولاياتالمتحدة إلى حد بعيد، وهي مستبعدة كذلك بسبب تعاظم محاذير إستخدام القوة العسكرية الصريحة في النزاع بين دول المنطقة في الوقت الحاضر، ولكنها ليست مستحيلةً، ويفترض أن تكون جزءاً من احتمالات المخططين. وكانت السعودية ردت بلسان مساعد وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلطان على إحدى صفحات "الحياة" الخميس الماضي على تلك الأخبار، مفيدة أنه لا توجد ضغوط ولن ترضخ لها إن وجدت، ولن تسمح لأحد أن يملي عليها. ويذكر أحد المطلعين أن "ليس هناك شرط على السعودية في عقد طائرات "أف-15" بعدم نشرها في تبوك". ويحتمل أن يكون هناك تفاهم بين الولاياتالمتحدة والسعودية على ضوابط نشر واستخدام الأسلحة الأميركية، وهو تقليد متبع في تفاهمات بيع الأسلحة بين كثير من الدول. وفي الوضع الأميركي تحكم ذلك قوانين معروفة وهي تطبق بمعايير مختلفة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. لكن الظروف الحالية التي تحكم العلاقات بين الولاياتالمتحدة - المعنية بالطلب الإسرائيلي- والسعودية، تختلف عن ظروف أواخر الثمانينات عندما تحدت الرياضواشنطن في عملية شراء ونشر صواريخ CSS2 الصينية الصنع، البالستية المتوسطة المدى. والسعودية من دون شك ترغب في ممارسة سيادتها كالمعتاد عبر نشر وتحريك قطاعاتها ومنظوماتها العسكرية بما تمليه عليها مصالحها الوطنية وخططها العسكرية، وتمركز طائرات "أف-15" في تبوك حالياً، وهو بالتأكيد ليس الأول، لا يخرج عن هذا المفهوم. * عقيد طيار ركن متقاعد، باحث في الدراسات الدفاعية في جامعة لندن.