بعدما انقشع الغبار الذي أثاره العدوان الجوي الاسرائيلي على منطقة عين الصاحب في سورية، برز تساؤل عن غياب المقاومة العسكرية لصدها. اذ أوردت الصحف الاسرائيلية أن المقاتلات الإسرائيلية "أف-16" نفذت الغارة "من دون أن تواجه مقاومة، ويُرجح أن هذه المقاتلات لم ترصد أيضاً". وبثت القناة الأولى في التلفزيون الاسرائيلي منتصف آب أغسطس الماضي أن "مقاتلات إسرائيلية حلّقت على ارتفاع مخفوض فوق القصر الرئاسي السوري في مدينة اللاذقية، لإيصال رسالة مفادها أن إسرائيل تحمّل سورية المسؤولية عن التصعيد في الأوضاع الأمنية على الحدود الشمالية". ومصدر التساؤل هو أن القوات المسلحة السورية هي القوة العربية الرئيسة والوحيدة التي بقيت في موقع المواجهة مع إسرائيل، وتبنت منذ الثمانينات مبدأ التوازن الإستراتيجي مع الدولة العبرية بعد توقيع مصر معاهدة السلام وانسحابها من تلك المواجهة. ولدى سورية قوة عسكرية مؤثرة لجهة العدد والسلاح مقارنة بمن حولها، وهذا ينطبق أيضاً على قواتها الجوية ودفاعها الجوي، وهي خاضت في الماضي تجارب عسكرية طويلة كان أنجحها الأيام الأولى من حرب رمضان تشرين الأول/ أكتوبر. ولذلك كان يفترض أن يكون هناك استعداد وتصد مناسبان لهذه الاعتداءات الخطيرة وما يمكن أن يتبعها. ولا يمكن تحميل دمشق وحدها مسؤولية هذه المواجهة، فسورية وغيرها من بعض الدول العربية كانت ضحية تغيرات إستراتيجية كبرى بدءاً من انهيار الإتحاد السوفياتي، حليفها الرئيسي، مروراً بالحرب الباردة، وانتهاء بالغزو الأميركي للعراق وانهاء قوته العسكرية. ويضاف ذلك الى تراكمات ضعف الأداء الشامل للمجتمعات المعنية بهذه المواجهة، خصوصاً النخب السياسية والعسكرية فيها، وتصاعد العبء الاقتصادي الذي ضاعفه سباق التسلح، ما أدى إلى تدني القدرة على التفاعل مع المتغيرات الجيوستراتيجية والتكنولوجية المتسارعة. ويمكن القول أن اختراق الطائرات الإسرائيلية للعمق السوري وتنفيذ الغارة، كان عبر عملية دقيقة خطط لها من أعلى المستويات السياسية في المجلس الوزاري المصغر بقيادة ارييل شارون، مروراً بالمستوى الإستراتيجي العسكري في قيادة الأركان، ومركز قيادة العمليات المشتركة في المستوى العملياتي، ووصولاً إلى المستوى التكتيكي في الوحدات القتالية المختلفة التي يتم تكليفها عبر أمر العمليات الصادر من مركز القيادة المشترك، والذي يتولى التخطيط العملياتي الكامل للغارة بما فيه قيادة وتنسيق العملية بين الوحدات المشاركة والمساندة. واستخدمت مقاتلات "أف-16" في تنفيذ الغارة لأنها الأنسب لخفة وزنها وقدرتها على المناورة مقارنة بالمقاتلة الضاربة الأحدث والأكبر حجماً والأثقل حمولة F-15I، والتي تُستخدم لعمليات الهجوم ذات المدى الأبعد. ولا يمكن تحديد ماهية هذه القنابل أو الصواريخ الموجهة التي استخدمت في الغارة، اذ ربما تكون من تلك التي تطلق عن بعد من مسافة 40 كيلومتراً أو أكثر، اذ لا يتعين عندها أن تدخل الطائرة المهاجمة في مدى دائرة الدفاعات الجوية المكلفة حماية الهدف، والتي يبدو أن رادارات تلك الدفاعات لم تكتشفها بسبب إجراءات التعمية والتشويش الإلكتروني المناطة بطائرات إسناد الحرب الإلكترونية، والتي ربما تقوم أيضاً بدور استخباري في مراقبة أي رد فعل مسبق من الدفاعات السورية وكشفه للتعامل معه أو لإيقاف العملية. وربما شاركت في الغارة طائرات حماية من طائرات القتال الجوي "أف-15" وطائرات الإنذار والقيادة والسيطرة E-2. ويرجح أن الطائرات المهاجمة حلقت على علو متوسط إلى مرتفع كي تتلافى المدفعية المضادة للطائرات. واضافة الى عوامل القوة والفعالية المعروفة للقوة الجوية - والتي تراهن عليها إسرائيل - فإنها الوحيدة دون القوات المسلحة الأخرى برية وبحرية التي تستطيع أن تحقق هدفاً عسكرياً إستراتيجياً من دون أن تحتاج الى التدرج في تحقيق نصر تكتيكي ثم عملياتي كي تصل إلى الهدف الإستراتيجي. وأبلغ مثال على ذلك ضرب المفاعل العراقي عام 1981، والذي أجل البرنامج النووي العراقي أعواماً عدة. ومع أن هناك صعوداً غير مسبوق لدور القوة الجوية ونجاحاتها في الحروب الحديثة، حتى وإن استخدمت في صورة منفردة من دون القوات الأخرى برية وبحرية لتحقيق نصر عسكري كما في يوغوسلافيا وأفغانستان، الا ان هذا النجاح ليس مطلقاً. إذ لا يمكن أن تكون القوة الجوية منفردة هي الأداة الفعالة لتحقيق النصر في كل مواجهة عسكرية، خصوصاً في المواجهات غير المتوازية حروب العصابات، وأبرز دليل هو عجز القوة الجوية الأميركية في فيتنام والسوفياتية في أفغانستان. أما أقرب مثال وأدله فهو عجز القوة الجوية الإسرائيلية عن وقف المقاومة اللبنانية في جنوبلبنان أو المقاومة الفلسطينية في الانتفاضة. فاضافة الى القيود السياسية والعسكرية لاستخدام القوة الجوية، هناك الكلفة السياسية خصوصاً عندما تخطئ هدفها أو تتجاوزه، كقصف ملجأ العامرية في بغداد عام 1991، وقصف السفارة الصينية في بلغراد عام 1999. خاض العرب في العصر الحديث حربهم الجوية الناجحة والوحيدة ضد إسرائيل وقوتها الجوية في الأيام الأولى من حرب أكتوبر 1973، حيث نجحوا في تحييد القوة الجوية الإسرائيلية، بعدما توصل المخططون من الجانب العربي الى أن مجابهة المقاتلات الإسرائيلية في الجو بواسطة المقاتلات العربية خيار خاسر، بسبب تفوق سلاح الجو الإسرائيلي بأطقمه البشرية بواسطة طائراته المقاتلة وتجهيزاتها الإلكترونية والرادارية، اضافة الى تفوق أسلحتها الموجهة وتكتيكاتها القتالية. لذلك كانت الإستراتيجية المضادة لذلك التفوق هي استخدام منظومة الدفاع الجوي ومكوناته الرادارية وصواريخ أرض - جو والمدفعية المضادة للطائرات، اذ كانت الصواريخ خصوصاً "سام-6" والمدفعية المضادة للطائرات وتحديداً ZSU 23 سلاحاً فتاكاً ضد الطائرات الإسرائيلية التي تهاوت بالعشرات على خط المواجهة في الأيام الأولى، قبل أن يتدارك الإسرائيليون الموقف بمساعدة أميركية مباشرة بواسطة أجهزة وإجراءات الحرب الإلكترونية ووسائل إخماد تلك الدفاعات الجوية، من خلال التدمير المباشر لتلك الوحدات. اثر تلك المواجهة العسكرية الكبرى والشرسة، وبعد سيل من الدراسات التحليلية لكل أبعادها، تلقن الإسرائيليون الدرس وبدأوا تطوير وسائلهم القتالية بمساعدة أميركية مستمرة، وواكب ذلك تطوير لعقيدتهم العسكرية ضمن مشاريع تدريبية مكثفة وصارمة. وتبينت نتائج ذلك التطوير أثناء غزوهم لبنان عام 1982، عندما تم تدمير الدفاعات الجوية السورية في لبنان وإسقاط ما يزيد على 80 مقاتلة سورية في عملية قاسية ومؤلمة. واستمرت إسرائيل في مراهنتها على قوتها الجوية وتمكنت، بمساعدة مباشرة من الولاياتالمتحدة، من تطوير سلاحها الجوي بمنظومات حديثة ومتفوقة، ذات مدى مضاعف وقوة تدمير أكبر وأدق، مكنها من فرض سيادتها الجوية على كامل المنطقة العربية. وعلى رغم كل المنظومات العسكرية الجوية العربية، كانت إسرائيل تخطط بكل دقة وفاعلية ومخاتلة، لتضرب - ليس في لبنان في شكل مستمر فقط - بل في عمق العالم العربي، كما حدث في العراق عام 1981، وفي تونس عندما دمرت مقر منظمة التحرير الفلسطينية عام 1985، وكما حدث في سوريا قبل أيام، وكما تهدد بفعله ضد المنشآت النووية في إيران. وليست هناك مبالغة، فكل الأهداف الإستراتيجية العربية والعسكرية بما فيها البنية التحتية والاقتصادية، موجودة في بنك معلومات في مراكز القيادة العسكرية الإسرائيلية ضمن خطط يتم تحديثها باستمرار بما في ذلك ما يقع داخل مصر والأردن. فأين هي الخطط العربية لحماية هذه الأهداف؟ وما هي الجدوى من الوحدات القتالية التي يلتحق بها عشرات الألوف من الضباط والجنود والتي تدير منظومات الأسلحة الحالية، ومن المفترض أنها تطبق عقائد قتالية وعلى قدر من الاستعداد لمواجهة الطوارئ، لكنها في المحصلة النهائية غير قادرة على التعامل مع التهديدات المحتملة. وينطبق توصيف أحد الكتاب العسكريين بدقة على الحالين العربية والإسرائيلية في هذا الشأن، اذ يقول ان "هناك فارقاً كبيراً بين مقتنيات من الطائرات المقاتلة والصواريخ وبين قوة جوية". تلكأت القوى العربية الرئيسية في مواكبة التطور الإسرائيلي في أعقاب مواجهة 1973، فتقادم السلاح العربي، واستمر هذا السلاح يأتي مستورداً من الكتلة الشرقية، من دون أن يكون هناك تطوير حقيقي لسلاح عربي. فبخلاف التجربة المصرية في تصنيع السلاح الرئيسي عبر رخص تجميع من مصادر غربية وشرقية، اكتفت بقية الدول العربية بالاستيراد وبالدعم اللوجستي شبه الكامل من الدول المصدرة ومستشاريها العسكريين، عدا تصنيع بعض الذخائر التي لا تحتاج لتقنية عالية، فيما تخلت هذه الدول عن معالجة أهم عنصر في هذه المنظومات القتالية وهي مكوناتها الإلكترونية وأنظمة التوجيه والاتصالات، حيث هي كعب أخيل الذي يمكن من خلاله - إذا لم يكن مضاداً للاختراق- شل أي سلاح وبالتالي تركه هدفاً أعمى للعدو. وفي المقابل دعمت إسرائيل صناعتها العسكرية بقوة، وأصبحت، اضافة الى تصنيع بعض أسلحتها الرئيسية بالكامل كدبابات "ميركافا" وطائرات الاستطلاع والصواريخ الموجهة بأنواعها، تصنع التجهيزات الإلكترونية لتلك الأسلحة التي تستوردها ولا تستطيع صناعتها بمفردها لارتفاع الكلفة، كالدفعات الأخيرة من مقاتلات "أف-15" و"أف-16" وتقوم بتطوير البرمجيات الأساسية لحاسباتها وأجهزتها، حيث يمكن أتمتة تلك البرمجيات وتعديلها وتطويرها للتعامل مع تغيرات التهديد المعادي. ويمكن المجادلة أن هناك تكريساً لدى المؤسسة السياسية والعسكرية العربية الحديثة للعمل المنفرد لكل فرع من أفرع القوات المسلحة ومنظوماتها لأسباب تعود جذورها الى ثقافتها الاجتماعية السياسية والعسكرية السائدة، وصعوبة الوصول الى أداء جماعي متقن، فيما اتجه العمل العسكري الحديث الى مبدأ توحيد تخطيط وقيادة العمليات المشتركة، من خلال هارمونية الأداء لوحدات وأفرع القوات المسلحة، ضمن وسائل القيادة والسيطرة الرقمية الآمنة، متبنية عقائد عسكرية يستمر تطويرها بحسب المستجدات وتنفيذ تمارين صارمة ومستمرة لخططها الدفاعية والهجومية، في إطار بيئة تتعزز فيها الروح العقائدية والمعنوية لهذه الوحدات، ومن خلفها تأييد مقومات الدولة ودعمها الشعبي. ولا شك في ان غارة جوية على هذا المسرح وفي هذا الوقت، عمل سياسي وعسكري بامتياز وشأن دولي في الآن نفسه، ومن دون تعامل مشترك سياسي وعسكري مضاد، فالغالب أن هناك عجزاً وفشلاً. ومن خلال التجربة فإن القرارات الدولية في الصراع العربي - الإسرائيلي لن تجدي وحدها، مع أن العنصر الإعلامي والتعاطف والشرعية الدولية هي عوامل حيوية وأساسية، وتبقى هناك وسيلة مشتركة - بالغة الصعوبة في الاجتراح- لمقاومة إسرائيل المدعومة بسياسة وسلاح حليفتها الولاياتالمتحدة، والتي ربما تؤدي الى رد أولي ومناسب من الطرف العربي حيال أي غارة قادمة - حتى لو على لبنان والوحدات السورية المنتشرة فيه - على شكل عمل دفاعي يؤدي إلى إسقاط طائرة إسرائيلية واحدة وعرضها على العالم. لكن هذا في الوضع الراهن يبدو بعيد المنال. * عقيد طيار ركن متقاعد، باحث في الدراسات الدفاعية في جامعة لندن.