ان كنت أتفق مع السيدة دلال البزري في بعض النقاط التي أوردتها في مقالها "بأي معنى يأتي التغيير من الخارج؟ أو لا يأتي؟" "الحياة" في 7/9 فإنني لا شك اختلف معها في بعضها الآخر. يبدأ ذلك الاختلاف بتعبيرها: ان "المجتمع المدني تبخر ليحل محله الشارع" في البلاد العربية، إثر الحوادث الجسام التي مرت. والسؤال: هل هنالك مجتمع مدني بالمعنى الاجتماعي السياسي المتعارف عليه يمكن أن يتبخر بين عشية وضحاها؟ فإن كانت الكاتبة تقصد ب"المجتمع المدني" بضع مؤسسات قامت في الدول العربية، بمساعدات غربية، فتلك لا أعتقد أنها تمثل مجتمعاً مدنياً. المجتمع المدني هو مجموعة من المنظمات المجتمعية السياسية، تتجلى في شكل هيئات أو أحزاب أو نقابات أو جمعيات، تضم تجمعات شعبية ذات مصالح موحدة أو متقاربة، تجتمع في هيئات شعبية غير حكومية من أجل التعبير عن مصالح المجموعة الشعبية التي تمثلها، وتدافع عن حقوقها، وتقف في وجه الحكومات عند اصدارها قوانين أو اتخاذها اجراءات تتعارض مع مصالح هذه الفئات الشعبية، أو لا تتفق مع حاجاتها ومتطلباتها، فهي جماعات ضغط على سياسات هذه الحكومات، تحسب لها الحكومات حساباً لأن بقاءها في سدة الحكم يعتمد على مدى تمثيلها لمصالح الفئات الشعبية المختلفة، التي تمثلها مؤسسات المجتمع المدني. كان لا بد من ايراد هذا التعريف المبسط كي لا يتم الخلط بين الأمور، وتسمية تجمعات قامت هنا وهناك، في أنحاء متفرقة من الوطن العربي، باسم "المجتمع المدني". ومن البديهي ان هيئات ومؤسسات المجتمع المدني لا يمكن أن تقوم وتمارس دورها إلا في ظل حكومات ديموقراطية، ليكون عمل هذه المؤسسات حراً. والمواطن حر في الانتساب اليها، غير مغيب عن الفعل المجتمعي السياسي، مؤمن بدورها في الدفاع عن مصالحه وحقوقه وبدوره الخلاق فيها، في دول يسود فيها الحق والقانون، وليس في دول محكومة من قبل سلطات شمولية، تحتكر لنفسها السياسة والفعل المجتمعي، وحب التعبير عن مطالب الفئات الشعبية "القاصرة عقلياً"، وتحكم الشعب بقوانين طارئة ومحاكم استثنائية، جاهزة لاستباحة حقوق المواطن. إذاً، لم يكن هنالك في الأصل مؤسسات مجتمع مدني راسخة في الدول العربية، ولم يكن الشعب ممثلاً سوى بكتلة بشرية منكفئة، مذعورة، صماء بكماء. ومن جهة أخرى فإن "الشارع" لم ينزل الى الشارع بعد الحوادث الجسام التي عصفت بالمنطقة. فبضع مئات أو آلاف احتجوا وتظاهروا في بعض العواصم العربية ضد المجازر الصهيونية في الأراضي المحتلة، أو ضد العدوان ثم الاحتلال الأميركي للعراق، لا يمثلون "شارعاً" في المفهوم السياسي للكلمة، مقارنة بالملايين التي خرجت في العواصم الأوروبية. فالشارع لا يزال في الدول العربية مكبلاً خائفاً. صحيح ان الناس كانوا معنيين ومشدودين بعواطفهم الى ما يحدث في البلدان العربية الشقيقة، واعين تماماً الخطر الذي يتهددهم ويهدد المنطقة بأكملها، ولكن عقوداً من التكبيل والتكميم، بل الشراسة التي جبهت المتظاهرين كانت كفيلة بإبقائهم أسيري فجيعتهم وبيوتهم، مكتفين بالانتحاب بصمت أمام شاشات التلفزيون. أما من نزل حقاً الى الشارع فكان فلول تنظيمات "مجتمع مدني عربي"، مجهض، وفلول أحزاب أنهكتها الملاحقة والقمع، أو جمعيات مناهضة للتطبيع، أو مقاطعة للمصالح الأميركية والصهيونية، وغير ذلك من نتف مؤسسات مجتمع مدني محتضرة أو وليدة تلك التنظيمات لم تستطع استقطاب الشارع العريض، لا لعيب فيها، وإنما لأسباب تتعلق بطبيعة أنظمة الحكم الشمولية. أما الصيغ التفضيلية: "إما... أو..." فأعتقد ان الكاتبة قسمت الناس الى قسمين: إما معتمدين على التغيير الآتي من الخارج، أو أصحاب نظرية التغيير من الداخل. وهؤلاء وصفتهم بصانعي ديموقراطية مخفية الهوية الغربية، على رغم ان البديل الثالث هو ما ينادي به كثير من المثقفين الديموقراطيين بكل واقعية، على أساس ان مقاومة العدو الخارجي تعتمد على تفعيل طاقات المجتمع كافة، واشراك جميع فعاليات الوطن في التنمية والتطور والمواجهة، واشاعة أجواء حرية التعبير، والاعتراف بحق الاختلاف السياسي والفكري، وسيادة الحق والقانون، والوقوف ضد الفساد ونهب الشعوب، ليقف الكل، دولة ومواطنين أحراراً، صفاً واحداً في مواجهة أي خطر يمكن أن يتعرض له الوطن. من ناحية أخرى، الديموقراطية ليست حكراً على الجيوش الغازية التي اجتاحت واحتلت الأرض العربية، بل هي حق لكل الشعوب التي ساهم أسلافها البشر في صنع حضارة انسانية وصلت برقيّها الى مفهوم الديموقراطية. الديموقراطية ليست ملكاً للدبابات الأميركية، وليست ماركة مسجلة غربية، يريد المثقفون أو النخبويون العرب نزع لصاقتها واستبدالها، غشاً، بأخرى يكتب عليها "صنع محلي". فاستخدام شعار الديموقراطية جوراً من قبل قوى معتدية، لا يعني أبداً أنها لا تلائم الشعوب المضطهدة المقهورة التي يدعي منظرو أنظمتها الحاكمة انها يجب أن تفصل على مقاس "عقولهم القاصرة"، بل هي نظام صالح لكل زمان ومكان، ما دام يعطي الناس كلهم الحق في أن يعبروا عن آرائهم، وفي أن يحكمهم ممثلو الأغلبية. ولعلي أتفق تماماً مع الكاتبة في مقولة أن لا حرية من دون ديموقراطية، ولا ديموقراطية من دون حرية. فالحرية ليست التحرر من المستعمر فقط، بل هي امتلاك الشعب قراره ومصيره، وحكم نفسه بنفسه، بنظام ديموقراطي يحمل لصاقة واضحة يكتب عليها "صنع بيد حضارات انسانية متعاقبة تطورت على مدى التاريخ". دمشق - ميّة الرحبي [email protected]