الشيء الغريب أنني أجد نفسي أكثر توازناً وأنا أتحدث إليك مما لو كنت أتحدث مع شخص آخر مثل شمعون بيريز ذي اللون الباهت الذي يرسل الكلام من دون قدرة على التنفيذ والذي ينادي بالسلام في الوقت الذي يقوم فيه بأبشع المجازر في قانا والذي يمتلك تاريخاً أسود ربما يفوق سواد تاريخك أو يعادله على أقل تقدير... فهو قاتل وسيلته السم يدسه في العسل ولكنك قاتل بمسدس من دون كاتم صوت، مجال عملك في ساحة القتال بينما ينتقي بيريز ملاعبه في حجرات المؤامرات والاتفاقات السرية فهو متآمر عريق. ما علينا من كل ذلك وقد وطّدت عزمي على الكتابة اليك، فأنا لا أمانع في أن أتحدث إلى خصمي، ولا أتردد في الوقت نفسه من أن أنازله، لأن القتال في مسارح العمليات هو مجرد إجراء سياسي يمهد للحوار بالكلمات حول موائد المفاوضات أو القنوات السرية، ولا بد للقتال والحوار بالكلمات أن ينتهي يوماً ما إلى اتفاق. فلم يذكر التاريخ أن قتالاً ما أفنى شعباً من الوجود لأن الشعوب خلقها الله سبحانه وتعالى وما خلقه الله لا يمكن لبشر أن يزيله. فالقدرة الإلهية فوق قدرات البشر وأظنك توافق على ذلك... وعلى ذلك فالفلسطينيون باقون وأنتم باقون ولكن أنتم لستم في المريخ وهم ليسوا في زحل بل شاء الرب - وله في ذلك حكمة - أن تحشروا أنفسكم معهم على أرض فلسطين التي تقولون إنها كانت لكم لبعض سنين في الماضي السحيق والتي يقولون انها لهم منذ قرون... وعلى رغم أن هذا حقاً تاريخياً إلا أن موازين القوى العالمية والاقليمية اقتضت أن تكونوا هنا لأن الواقع الجغرافي دائماً ما يهز الحقوق التاريخية لأنه يتعامل مع الأرض ويتجاهل ما هو مكتوب في أوراق التاريخ! والدول تقام على الأرض ولا يمكن أن تقام على الورق ولا يمكن أن تستمر لو بنيت في ورق. ونحن الآن نعيش في بقعة كبيرة من الدم بداخلها وفي كل شبر منها أشلاء وجماجم وجثث أطفال ونساء وشباب وشيوخ... رائحة الموت تزكم الأنوف وأجنحة ترفرف على المكان... تواجد الموت في الازقة والحواري والأوتوبيسات والمقاهي والمدارس... في كل مكان! والكل ينادي بالسلام. إسرائيل تنادي بالسلام، والفلسطينيون يرفعون شعارات السلام والعرب كلهم يريدون السلام والولاياتالمتحدة تقول إنها تسعى الى تحقيق السلام، وكذلك باقي دول العالم. إذن هناك اتفاق استراتيجي على تحقيق السلام في الأرض المقدسة ولكن... وآه من لكن! لماذا لا يتحقق هذا السلام؟ وهل يتفق الجميع على مفهوم هذا السلام؟. موشيه دايان عبّر عن ذلك فيقول "ما الذي تسعى إسرائيل إليه؟ السلام! ولكن ما الذي يحول من دون تحقيقه؟ لا شيء لو أن اسرائيل بقت على الاوضاع السيئة التي كانت عليها بنفس الحدود والاتفاقات من دون ان تحقق تغييرات اساسية في كل شيء، فالقول إذن بأن العرب لا يريدون التسوية هو نصف الحقيقة لأن نصفها الآخر كامن في التغيّرات التي نريدها والتي تحقق لنا الأمن ولكن ما هو الأمن الإسرائيلي؟ الأرض. وليس من الصواب أن تعلن إسرائيل ضم المناطق إذ أن الافضل هو الاستيطان وهو عبارة عن العمل لأن العمل هو الذي يخلق الواقع السياسي". ويستطرد الأعور قائلاً "الحديث عن قداسة الحدود هراء والحدود ليست مقدسة ولا ثابتة فهي متغيرة في منطقتنا... إننا قلب مزروع في منطقة ترفض الاعضاء الأخرى وليس أمامنا إلا استخدام المضادات الحيوية بصفة مستمرة لكي يبقى، لأن القلب الذي زرعناه في هذا المكان ما كان يمكن أن يعيش في أي مكان آخر". كلام واضح... أنت مقتنع به وتنفذه. وبمرور الأيام بعد أيام موشيه دايان تحدد الاتفاق الاستراتيجي العام وهو السلام بتفاصيل تكتيكية اخرى بعد الدروس الدامية التي تلقيتها على يد شعب فلسطين العظيم. أصبحت مقتنعاً بوجود دولة فلسطين على جزء من الأرض المغتصبة، وأصبحت الولاياتالمتحدة مقتنعة بوجود دولة فلسطينية متصلة ذات سيادة الى جوار دولة اسرائيل، وأصبحت أوروبا مقتنعة بذلك ايضاً بل شريكة في التخطيط لمشروع "خريطة الطريق"، وأصبح العرب - كل العرب - مستعدين للاعتراف بكم في المنطقة لو اقيمت الدولة على الأرض التي وضعتم يدكم عليها بعد هزيمة 1967 وعاصمتها القدسالشرقية. يعني وسط الدماء والضحايا هناك جسور تبنى وأصبح المستحيل ممكناً. فبعد أن كنتم لا توافقون أبداً على وجود "دولة" أخرى بين البحر والنهر أصبحت موافقاً على عدم وجود "جيش" آخر بين البحر والنهر وبعد ان كان العرب والفلسطينيون ينادون بإلقاء إسرائيل في البحر على قاعدة أن الصراع ليس صراع حدود بل صراع وجود أصبحوا يعترفون بوجودكم بينهم كأحد أعضاء الأسرة الاقليمية وليس كبيرها. ولم يبق بعد ذلك الا الاتفاق على قطعة الكعكة التي ستشكل الدولة المجاورة لدولتكم... حجمها؟ حدودها؟ شكلها؟ سيادتها؟ أنتم تتخيلونها بشكل ونحن نتخيلها بشكل آخر... والأمر ليس بهذه السهولة لأن العامل الأساسي لتصوركم هو الأمن... لماذا؟ انكم تخافون من المستقبل لأن اللص يعيش في خوف دائم من اكتشاف جريمته والقاتل يعيش في رعب دائم من أن يصحو القتيل فجأة فيقضي عليه كحكاية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ. والأساس الذي نبني عليه تصورنا هو الحق التاريخي والمصلحة... أنتم تريدون حلاً يبنى على توازن القوى ونحن نريد حلاً يبنى على توازن المصالح والعدالة التاريخية فكيف نقارب بين أمنكم وبين مصالحنا وحقوقنا؟ هذه هي المعادلة الصعبة ولا نقول المستحيلة. فالصعب يمكن التعامل معه أما المستحيل فهو أمر عصي لا يمكن التغلب عليه إلا باستخدام القتال، لكننا جربنا القتال لمدة 50 عاماً... قوتكم التقليدية وفوق التقليدية والنووية في مواجهة قوتنا التقليدية التي تراجعت لتصبح الآن القوات تحت التقليدية، وثبت لنا أن إرادة المقاومة تسد النقص في القدرة القتالية أي أن الرادع الصغير يمكن أن يتصدى للرادع الكبير فأنت تقول آه في سرك والفلسطينيون يقولون آه بصوت هامس ولكن من الذي سيسبق الآخر ويرفع صوته ويقول آه؟ ومتى سيكون ذلك؟ لا أحد يعلم إلا الله أيضاً.. فهل من الحكمة ترك الأمور للمقادير تحركها كيف تشاء؟ أم أن الحكمة تقتضي بتدخل أصحاب القرار على أساس من الإرادات الناقصة التي تحقق الأغراض الناقصة، وعلى أساس الأمن المتبادل للطرفين وليس الأمن المطلق لطرف من دون الآخر. إذن ينحصر الموضوع الآن في قضية الأمن فأنت تريد أن تحققه لنفسك ولا تنظر الى الجانب الآخر من التل وبذلك فالحل الذي يتنامى في عقلك الباطن هو حل ناقص لأنه لا يلقي بالاً الى الآخر... من زمان وأنت تتخيل أن الأمن يتحقق بتقطيع أوصال الدولة المقبلة ولذلك عملت حين كنت وزيراً للبنية التحتية على شق الطرق الملتوية وإقامة الجسور التي تقطع الأرض الى أجزاء كالفسيفساء وأحطت المدن والقرى بسدود لتمنع اتصالها الجانبي وتابعت سياسة حزب العمل في بناء المستعمرات ثم وصل خيالك المريض بك الى إقامة السور العنصري... فكرة عدم الاندماج التي نادى بها أحبارك عن طريق التيس داخل الغيتو... يعني تجمعتم من الشتات حيث كنتم تقيمون في الغيتو لتعيشوا هنا في غيتو آخر داخل سور؟! أين سور الصين العظيم؟ أصبح مزاراً للسائحين وقف عليه نيكسون وكسينجر وهما يسعيان لإعادة العلاقات مع الصين. أين أسوار القاهرة التي كانت تبنى في كل العصور بأبوابها الضخمة التي كانت تقفل على سكان الأحياء؟ أين "خط ماجينو" الذي تجاهلته قوات البانزر وهي تتحرك نحو بحر المانش لقطع طرق انسحاب البريطانيين الى دنكرك؟ أين "خط سيغفريد" الذي بناه هتلر ليحمي نفسه من الغزاة؟ بل أين هو "خط بارليف" الذي أصبح مصيدة لقواتكم أمام الصيادين المصريين؟ ثم أين "سور برلين" الذي كان يفصل الشرق عن الغرب؟ لقد أزالته إرادة الشعب الأعزل فقفزوا عليه وحطموه بالأيادي والفؤوس حتى تأخذ العوامل الطبيعية طريقها من دون تدخل أو عقبات. نسيت أيها الجنرال عاملاً بشرياً مهم هو العواطف البشرية والزيجات المختلطة التي لا يمكن أن يحول دونها سد أو حائط، لقد أزعجك هذا العامل فأستصدرت قانوناً عنصرياً بعدم اعطاء الجنسية للأطفال الذين يولودن نتيجة هذا الزواج المختلط حتى ولو كان الطرف الآخر عرب 1948؟ الرقعة أمامك واسعة مليئة بالثقوب تحاول رتقها مرة بالدبابة والاغتيال، ومرة بتهديم المنازل والمستشفيات، ومرة بالجرافات لتزيل البيارات ومرات اخرى باستخدام القانون. متى ستستيقظ لتعرف أنك تسير في طريق الأوهام الذي لن يصل بك إلا إلى سراب؟ متى تزيل عن عينيك غرور القوة لتتعامل مع الحقائق والأمر الواقع؟ ولكن غرور القوة لا يمكن أت تزيله إلا القوة المضادة لأن من خصائص القوة انها إذا انطلقت من مخازنها تنتشر لا تلوي على شيء إلا اذا تصدت لها قوة اخرى توقفها عند حدها ثم تردها على أعقابها من حيث أتت. أخشى ما أخشاه أنك - أمام الصمت المخزي للعالم وتشجيع الاميركان على ما يجري - تفكر في مشروع مريض آخر هو مشروع الارض المحروقة مقلداً استراتيجية ميخائيل كوتوزوف الروسي وهو يحرق الارض امام جيوش نابليون وهي تتقدم الى موسكو. هو فعل ذلك دفاعاً عن أرضه، وأنت تفعل ذلك اغتصاباً لأرض غيرك، انك تهدم وتدمر وتقتل مستخدماً الدبابات والجرافات حتى تدفع بالشعب الفلسطيني - والشتاء على الأبواب - الى العراء لا حيلة له أمام "الجنرال شتاء"... يعني انك تخطط لكي يصبح الشعب الاعزل في مواجهة جنرالين في وقت واحد: الجنرال شارون والجنرال شتاء ويصبح الأبطال العمالقة في محنة تظن انها عصيبة على إرادة البشر. تعلن انك تسعى الى السلام وفقاً لخريطة يستحيل قبولها وتبذل الجهد معك لكي تصلها وانت مصر على رفضك لأنك تخاف من السلام معتقداً أنه "كَفَنْ" يتدثر به جثمان إسرائيل قبل أن تدفن او يلقى بها في البحر.. أنت تعتقد ان السلام بالنسبة لإسرائيل هو انتحار. الفلسطينيون في مأزق وانت ايضاً في مأزق. إذ ليس لديك الشجاعة لمواجهة متطلبات السلام وحينئذ ليس أمامك إلا خيارات مرة: إما تستمر في محاولاتك لبناء اسرائيل اليهودية، وإما أن تسعى لتكون فلسطين المرتقبة مجرد مكان معزول يتجمع فيه الفلسطينيون من دون سيادة او إرادة، وإما تبقى على الوضع على ما هو عليه قتال بالنهار وتدمير بالليل، أو توقّع على اتفاق يحقق توازن المصالح، أو تقبل تكوين دولة علمانية بها الفلسطينيون واليهود شأنها شأن باقي الدول. أعرف أنها خيارات مرة ولو كنت مكانك لذهبت الى حائط المبكى لابساً "كيبا - سروجا" سوداء فوق رأسك وأدعو على الآباء الأوائل الذين زرعوا اسرائيل في الوقت غير المناسب وفي المكان غير المناسب، وأن يلهمني الحكمة لأصل إلى القرار المناسب الذي ينقذني من الورطة التي اعيشها وتكاد تخنق اسرائيل. * كاتب، وزير دفاع مصري سابق.