الذكرى الثانية لأحداث 11 ايلول سبتمبر 2001 تعيد الى الذاكرة مشاهد الكارثة المرعبة والهلع الذي استولى على افئدة مئات الملايين في شتى أنحاء العالم. ويخيل الي ان الولاياتالمتحدة لم تلتقط أنفاسها بعد هذه الضربة الموجعة حتى الآن. واضافة الى الخسائر البشرية التي لا تعوض والأضرار الاقتصادية الجسيمة ثمة ضرر لا تعالجه السنون، وأقصد في المقام الأول طعنة الكبرياء والجرح النفسي العميق في كيان بلاد تعودت على احساس بالأمن يكاد يكون مطلقاً. آنذاك استحدثت الولاياتالمتحدة نظام الدرجات الملونة لتقويم أخطار الارهاب، واعلنت الإدارة الاميركية بعد ذلك مراراً عن احتمالات وقوع عمليات ارهابية من الدرجة "البرتقالية" وهي الثانية بعد "الحمراء" التي تعني هجوماً مكثفاً للارهابيين، وطبيعي ان الحياة تفقد قيمتها في ظل أخطار متواصلة وحين يشوبها مذاق الموت. لا أفضل من الفواجع والآلام وسيلة لتوحيد البشر، فكيف لا نتذكر انفجار مشاعر المواساة الصادقة للأمة الاميركية في فاجعتها تلك الأيام، واضافة الى التأييد المباشر من أكبر دول العالم حادث تظاهرة التضامن الانسانية الشاملة لتمنح جورج بوش تفويضاً بملاحقة تنظيم "القاعدة"، وجمعت الولاياتالمتحدة بين حقها المعنوي في القصاص وبين تأييد الأممالمتحدة فارتقت في تلك الخطة ربما أعلى مستوى في تاريخها من مراتب الشهرة والمجد. ولم تكن قدرة واشنطن العسكرية على تسديد ضربة ساحقة الى قواعد بن لادن المعيار الوحيد الذي أرسى قاعدة الزعامة الاميركية الجديدة، اذ عززت، شرعية التحالف الدولي الذي قادته اميركا، موقعها كمتربع وحيد على العرش، وبتأييده منح العالم الولاياتالمتحدة رأسمالاً دولياً هائلاً. والمهم بعد عامين على الكارثة، ليس فقط احياء ذكرى آلاف الضحايا، بل فهم الكيفية التي تصرفت فيها اميركا بهذا الرصيد. وسأطرح رؤيتي بهذا الخصوص، لكن أود بداية ان اعرض بضع ملاحظات لها علاقة بتقويم أخطر تحديات العصر، واعتقد ان تلك المسألة مهمة، اذ ان التبدل الرئيسي الذي حدث بعد 11 ايلول يتلخص، في رأيي، بإدراك الحضارة العالمية المفاجئ لهشاشة كيانها ورخاوته، وسهولة تسديد الضربات اليه. عندما استقبلت البشرية الألفية الثالثة كان أخشى ما تخشاه تعطل اجهزة الكومبيوتر، ولم تلتفت الى جرثومة رهيبة تفوق خطورتها كل التوقعات، وقبل عامين ساق الطياريون الانتحاريون الدليل على ان جميع البلدان متساوية امام الارهاب، بغض النظر عن مستوى تطورها الاقتصادي أو قدراتها الدفاعية، واتضح ان الدول الأكثر تطوراً هي في الواقع الاكثر تعرضاً للاصابة، وضعفها هذا هو الثمن الحتمي مقابل جودة الحياة والقيم الديموقراطية. وباتت العولمة التي جعلت انتشار المعلومات الفوري شرطاً لازماً لوجود المجتمع، وسيلة تستخدمها الجماعات الارهابية الدولية لفرض قواعد اللعبة على الآخر. فالمدن العصرية العملاقة ذات الهيكلية الاساسية المعقدة غدت ضعيفة عزلاء امام العمليات الارهابية، والمواطن المتحضر العادي لا يستطيع العيش في جو من الخطر الدائم، وهو غير مستعد لقبول حقيقة تحول الرحلة الجوية المعتادة أو التردد على المسرح الى مأساة دموية. انه يطالب الدولة بضمان سلامته من دون قيد أو شرط، ومن دون ان يتنازل عن حرياته. ولا يمكن لأية دولة ان تنفذ هذه المهمة على انفراد، ذلك لأن الحدود تكتسب مزيداً من الشفافية وحرية التنقل شأن حرية تبادل المعلومات حاجة من حاجات التقدم، وليس بالامكان العودة بعجلته الى الوراء. وطبيعي ان التخلي عن منجزات التقدم في سبيل المزيد من الأمن يعتبر هزيمة للحضارة أمام التطرف، لذا فالرغبة في حماية حرياتنا وقيمنا تملي علينا التعاون، ولا يكفي الإدلاء بتصريحات واعدة في اجتماعات القمم، كما لا يمكن الاقتصار على تبادل المعلومات، فلا بد من عمليات منسقة للوقاية من شر الارهاب ولا بد من التوصل الى نتائج ملموسة كالتي توصلت اليها الدوائر الأمنية الاميركية والروسية والبريطانية في آب اغسطس الفائت خلال عملية مشتركة حالت دون وصول راجمات صاروخية محمولة الى الارهابيين. اعطت أحداث 11 ايلول دفعة لموجة عارمة من التنظيرات والتأملات في شأن منابع الارهاب المعاصر ومخاطر صراع الحضارات وما الى ذلك. ونظمت ندوات فخمة وسط دعاية مدوية، وخرجت باستنتاجات في مقدمها ان الفقر اصل التطرف. والحقيقة ان الدراسات المختصة التي قامت بها اخيراً الأممالمتحدة لم تدلل على صدقية هذه الطروحات. وخلافاً للتصورات الشائعة لا ينتمي الارهابيون على الدوام الى فئات مسحوقة أو مظلومة أو أميّة. والأكثر وضوحاً هو الصلة بين الارهاب والايديولوجيا التوتاليتارية الاستبدادية أو مع عمليات التفكك والتداخل السريعة الملازمة للمجتمعات القبلية والعشائرية بتأثير التوسع الحضاري. ومهما يكن من أمر فإن دراسة الأسباب التي تدفع الارهابيين الى اقتراف جرائمهم لا ينبغي ان تسبق العمل من اجل قطع دابرهم، فإن مكافحة الفقر مهمة أبدية والمطلوب ضمان أمن المواطنين اليوم وليس غداً. ونعود الى دروس العامين اللذين مرا على أحداث ايلول، في اعتقادي ان الولاياتالمتحدة كان بإمكانها ان تتصرف برأس مال الزعامة الذي كسبته بشكل أكثر فاعلية ومردوداً. قال جورج بوش في كلمة ألقاها أخيراً في سانت لويس ان تنظيم "القاعدة" جريح، لكنه لم يلفظ انفاسه بعد، فما الذي منع الولاياتالمتحدة من ان تجهز عليه وتزيل نهائياً المصدر الاساسي للخطر الذي يهدد مصالح اميركا ورعاياها؟ لقد تغيرت أولويات الإدارة الاميركية جذرياً خلال العامين الماضيين، فعلى رغم عدم القبض على بن لادن والقريبين منه وعلى رغم عدم تحرير افغانستان في شكل كامل من "طالبان"، نقلت واشنطن مركز ثقل عمليات مكافحة الارهاب الى منطقة الخليج، فيما ظل الموقف في افغانستان وفي باكستان التي استقر فيها كثيرون من مقاتلي "القاعدة" مثار قلق بالغ. وفي فترة العمليات الحربية المكثفة ركز الاميركيون على تصفية البنية الاستطلاعية ل"طالبان" معولين على قادة ميدانيين من دون ان يساعدوا على تقوية الحكومة المركزية في كابول. وبالنتيجة نرى عجز حكومة حامد كرزاي عن حكم البلاد، ناهيك عن اعادة اعمارها على رغم التواجد العسكري الدولي الكبير. وما برحت افغانستان ملاذاً يسوده النظام العشائري وتنهشه الحزازات ويصول فيه الارهاب ويجول. وعلى رغم ان المجتمع الدولي لم يقلص ظاهرياً على الأقل المعونات المالية لافغانستان، فمن الواضح انه لا أمل في جذب مستثمرين وقيام مشاريع كبرى تؤمن السيولة والعمالة للشعب. ولا يزال الاقتصاد الافغاني قائماً على تجارة المخدرات التي تزايد انتاجها اضعافاً عدة بعد اطاحة "طالبان" واتسع تهريبها عبر جمهوريات آسيا الوسطى في شكل بات يشكل خطراً فعلياً يهدد الأمن القومي لروسيا. اما "القاعدة" فهي ترفع رأسها بين حين وآخر وتوجه ضربات تنتشر من المغرب الى اندونيسيا وتسفر عن ضحايا جدد بينهم رعايا الولاياتالمتحدة نفسها. في عام 2002 غدا اتهام صدام حسين، بالاتصال مع "القاعدة" اساساً لبدء الاستعدادات الاميركية لضرب العراق. ولم تثبت اية جهة تلك الاتهامات، إلا ان العراق بالذات، على حد قول الرئيس الاميركي هو اليوم رأس الجسر الأول في الحرب على الارهاب، وبالطبع لا مجال لانتظار أفضل من هذه الادعاءات من أجل تبرير الاعتمادات المالية الجديدة التي طلبتها الادارة الاميركية عشية الذكرى السنوية الثانية للحادي عشر من ايلول. وعلى خلفية التساؤلات الملحة من اعضاء الكونغرس حول ما إذا كانت السياسة الاميركية في العراق عاقلة على نحو كاف، وعلى أساس التقويم السلبي لأداء الولاياتالمتحدة هناك، لم تبق ثمة وسيلة للتأثير على دافعي الضرائب الاميركيين سوى بالتركيز على خطر الارهاب، فأمام أنظارهم وفي مخيلتهم لا تزال تلوح مشاهد انهيار ناطحتي السحاب في نيويورك، والحال ان كاتب هذه السطور أكد قبل عام في جريدة "الحياة" ان الضربة الاميركية الانفرادية ضد العراق ستسفر عن تداعيات ارهابية جديدة، وعلى رغم نفوري الشخصي من نظام صدام حسين، شأن أي انسان سوي، فقد كنت على يقين راسخ بأن الضغوط الدولية المنسقة بما فيها التهديد باستخدام القوة العسكرية بهدف التوصل الى الشفافية في التعامل مع المطالب الدولية كانت ستكون اكثر فاعلية من التفرد المباشر، وكان موقفي قائماً على فهم التشابك والتعقيدات القومية والطائفية في المجتمع العراقي. وقد خلقت اطاحة صدام حسين وتدمير بنى وتركيبة "البعث" فراغاً في السلطة يسهل على الجماعات الاصولية المتعطشة للانتقام ان تملأه. واخشى ان تكون توقعاتي صحيحة بقدر كبير. فمنذ الاعلان رسمياً عن انتهاء العمليات الحربية في حملة "الصدمة والرعب" تكبدت القوات الاميركية والبريطانية خسائر أكثر من خسائرها خلال القتال. وبات العراقيون الذين استقبلوا "المحررين" بالتهليل والترحاب يشعرون بخيبة أمل متزايدة بسبب البطالة وشح الأطعمة وانعدام الخدمات الطبية. والحكومة الموقتة التي تشكلت بشق الأنفس لا تخفي رغبتها في التخلص من وصاية سلطة الاحتلال بأسرع ما يمكن، والعمليات الارهابية ضد المراجع الشيعية والعتبات المقدسة تثير مخاوف من صدامات طائفية لا يعرف عواقبها الا الله. وبناء على أقوال الرئيس الاميركي فإن الارهابيين يتحشدون في العراق ليحولوا دون تحرره، وهذا قول يصعب الاعتراض عليه، إلا اننا نضيف ان ذلك نتيجة حتمية كان يجدر توقعها بعد تفتيت المجتمع العراقي وتدمير الدولة العراقية، ما فتح طريقاً واسعاً أمام الارهابيين الى هذه البلاد. كل تلك الاستنتاجات المؤسفة لا تعني ان المجتمع الدولي ينبغي ان يتفرج وهو مكتف الايدي على ما يجري في العراق. فالتهديدات المتصاعدة هناك لا تقتصر اخطارها على الولاياتالمتحدة وبريطانيا وإطالة أمد تطبيع الأوضاع في العراق، اضافة الى ضعف السلطات الانتقالية واعتمادها على المحتل توفر فرصة للقوى المتطرفة التي كانت وراء ارهاب 11 ايلول لتفجير الأوضاع اكثر في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وجنوب شرقي آسيا وهي القوى نفسها التي تقاوم احلال السلام حالياً في الشيشان. واليوم، عندما يناشد الرئيس الاميركي الأممالمتحدة نبذ خلافات الماضي وتحمل مسؤولية مستقبل العراق مع الولاياتالمتحدة ينبغي التركيز ليس على المجادلات النظرية بل على وضع خطة طويلة الأمد لإعمار هذا البلد. ونظراً الى قدرات العراق واهميته للمنطقة وللعالم بأسره فإن من الملح الآن و ضع مشروع مارشال جديد يمهد سبل العصرنة والتحديث أمام الشعب العراقي، فمحاولات الهيمنة واحتكار موارد العراق اعتماداً على قوات الاحتلال أو على الارادة الخاضعة لها لا يمكن ان تسفر إلا عن عراق مهمش وضعيف. وينبغي ان لا تتحول دعوة واشنطن للتعاون مناورة لتقليص التكاليف الاميركية، فتكتيك من هذا النوع لن يخدع ولن يخدم احداً. والمؤكد ان الشرق الأوسط غدا عقدة تناقضات خطيرة لا تبشر ببلوغ النتائج في المدى المنظور، وعندما ألقت الولاياتالمتحدة على عاتقها المسؤولية عن عملية العراق و"خريطة الطريق" الفلسطينية - الاسرائيلية فقد ضيقت هامش المناورة المتاح لها، وبديهي ان كل الغنيمة للمنتصر، إلا ان ثمن النصر قد يكون أغلى بكثير من قيمة الغنيمة نفسها. ولا بد لنا عندما نقيم الفترة التي اعقبت أحداث 11 ايلول ان نعترف بأن خطر الارهاب لم يتقلص، والجنّي الذي انفلت من القمقم لا يزال يصول طليقاً، والولاياتالمتحدة التي كسبت رصيداً غير مسبوق من التأييد الدولي استغلته لبلوغ أهداف قصيرة الأجل وثمة ما يبرر القول ان صناع القرار في واشنطن لم يتمكنوا من ادراك ابعاد المجازفة في تصرفاتهم، فالزعامة يمكن ان تفرض فرضاً لكنها ستواجه حتماً اختباراً قاسياً وعسيراً. * رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس السوفيات الشيوخ الروسي. نائب رئيس البرلمان الأوروبي.