كنت في قرية سيدي كرير في الساحل الشمالي عندما اتصل بي الدكتور جهاد عودة وسألني عنك: - رضا هلال ما كلمكش؟ ما تعرفش هو فين؟ - كلمني من أسبوعين. حايكون راح فين، تلاقيه مختفي في حتة بيكتب حاجة. بعدها بساعات اتصل بي الفنان التشكيلي وجيه وهبة وسألني عنك فقلت له: يا وجيه، المسألة لا تدعو لكل هذا القلق، ربما أراد أن يختفي من القاهرة لعدة أيام، هل كان ملتزماً بعمل ولم يؤده؟ أجابني وجيه بأنه لا يعرف شيئاً بالتحديد عن هذه النقطة. حتى تلك اللحظة لم أستشعر خطراً من أي نوع وواصلت استمتاعي بالجلوس في البلكونة أفكر في لا شيء. بعد ذلك اتصل بي الدكتور مأمون الفندي، هنأته بسلامة الوصول إلى مصر فقال لي إنه يكلمني من واشنطن ليسأل عن رضا. في تلك اللحظة فقط بدأت أشعر بالقلق، فعندما يسألك شخص بالهاتف من واشنطن عما يحدث لصديق في القاهرة، فلا بد أن يكون في الأمر ما يدعو للقلق، سألته السؤال نفسه: يادكتور، هل كان رضا ملتزماً بعمل ولم يقدمه في موعده؟ فأجابني: نعم، كان المفروض أن يذهب لوردية عمل في "الأهرام" يوم الثلثاء، فلم يذهب ولم يعتذر، وكان المفروض أن يسلم عموده الأسبوعي يوم الأربعاء ولم يحدث. لحظتها غاص قلبي بين ضلوعي. هناك أناس أنت واحد منهم، الموت وحده هو ما يمنعهم من تأدية واجبهم. أنهت مكالمة الدكتور الفندي أجازتي الصيفية، كنت نجحت إلى حد ما في ترك همومي في القاهرة، لم أكن أتصور أن هموماً أكبر ستسعى ورائي لتحرمني من النوم والراحة، بدأت أتصل بكل من أعرفه أو يعرفك وكانت الإجابة دائماً واحدة: لا أخبار، لا جديد. كانت مرت أربعة أيام على اختفائك، وكان رجال الأمن في مصر نزلوا إلى ميدان البحث الجنائي بكل ثقلهم، ومع كل خطوة من خطوات البحث، كان الغموض يزداد غموضاً. هذا هو ما فهمته من كل ما قرأت في الصحف المصرية والعربية. لقد أبحرتُ من قبل ولعشرات السنين، في بحار من الأحزان والمرارة، غير أنني أعاني الآن أحزاناً لم أعرفها من قبل. الجلسة في حديقة مطعم "الأجراس الخمسة" لم يعد لها طعم، أصدقاؤنا لم أعد أشاهد أحداً منهم هناك، فقد كنتَ أنتَ من يجمعنا، هل تذكر عشاءنا الأخير، كان عشاءً أخيراً بالفعل. من أين هبطت علينا كل هذه الكمية من الضحك والمرح؟ أسمع في عقلي أجراساً تدق، لمن تدق الأجراس يا رضا؟ كم هو كريه ومرّ ذلك الإحساس الذي يشعر به الإنسان عندما ينزل ستار حديد داخل عقله حاجباًَ عنه معرفة ما حدث لصديق اختفى فجأة في أكبر عواصم المنطقة العربية وأكثرها أمناً وسلامة. بدأ شريط طويل من الأحداث يمر بعقلي منذ أن رأيتك للمرة الأولى تعمل في الديسك في جريدة "العالم اليوم" منذ اثني عشر عاماً، وكنت أنا أكتب زاوية في الصفحة الأخيرة. كنت أحترم فيك الاعتزاز بالمهنة وما أسميه عبقرية المجهود. في كل لحظة أنت تحرص على معرفة شيء جديد، في كل لقاء تحدثني عن كتاب جديد وصلك. أعتقد أن ما وحّد بيننا على رغم فارق السن الكبير الذي يبلغ اثنين وعشرين عاماً، هو ما نسميه في الدراما "وحدة الضد"، فأسلوبك في التفكير يستند إلى الحسابات السياسية وقواعد العقل الصارمة، بينما أقفز أنا إلى النتائج مستعيناً بالحدس الإنساني. دعني أحدثك عن أمر حدث بعد اختفائك، لقد رصد الدكتور الفندي حملة هجوم عليك تبدأ في القاهرة مروراً بلندن إلى أن وصلت إلى جريدة في كاليفورنيا، مقالات تتحدث عن المثقفين المنبطحين. المنبطحون طبعاً هم نحن المنادين بالسلام والديموقراطية والحرية السياسية كسبيل وحيد للتنمية في مصر والمنطقة العربية. يبدو أن واقعة اختفائك أنعشت الآمال عند حفاري القبور القومية الجماعية، ووجدوها فرصة لدق الطبول بأمل استعادة الفاشية الكريهة في المنطقة. يبدو أنهم تصوروا أن اختفاءك مقدمة لاختفاءات أخرى تخلصهم من الحرية والأحرار في المنطقة كلها. وربما كان تفسير هذه الحملة أبسط من ذلك، ربما كانت ميكانزماً دفاعياً من بعض ضعفاء العقول الذين فكروا على النحو الآتي: الأحرار.. الاكفياء.. اللامعون.. المنادون بالسلام والحرية، يختفون. تعالوا نشتم رضا هلال لكي لا نختفي مثلهم. هذه الحملة البلهاء، ليست أكثر من تعويذة ضد الاختفاء يرددها ضعفاء عديمو الموهبة. فليكن السبب في اختفائك ما يكون، فلا بد من أن نعرفه يوماً ما، إذا كان هناك جناة، فإنني على يقين من أنه سيتم العثور عليهم وسيقدمون إلى العدالة، وإذا كانت هناك جريمة فلا بد أننا سنعرف أطرافها، وإذا كان حادثاً عبثياً عائداً للصدفة التعسة أو لسوء الحظ، فلا بد من أن تنكشف أبعاده. هذا هو الأمل الذي سيعيش معي ومع اصدقائك إلى الأبد: أن نعرف حقيقة ما حدث. أما عن المرارة والأحزان، فهي لا تمنعني من أن أقول ان التيار الإصلاحي في مصر يؤمن بالحرية الاقتصادية والتعددية السياسية بصفتها الطريق الوحيد للتنمية وإيجاد فرص عمل للمصريين تمكننا من إيقاف التدهور المستمر في سعر الجنيه. وقد يكون من المهم هنا أن أقول لقرائي واصدقائي: بين الحين والآخر تفاجئنا الحياة بحدث يؤكد لنا أن الحياة بطبيعتها قصيرة وإن طالت للبعض. لذلك يجب أن نحياها كأجمل وأعظم ما يكون. كل لحظة لا بد من أن تكون مثمرة ومفيدة وحقيقية؟ ماذا يتبقى للمفكر من الشرف الإنساني إذا لم يعلن للناس ما يفكر فيه، ماذا يتبقى من الكاتب إذا لم يحارب في وضوح من أجل ما يؤمن به؟ إنني على يقين من أن عاطفة اعتبار الذات عند أفراد التيار الإصلاحي في الإعلام وفي كل مهنة، واحترامهم لأنفسهم وإحساسهم بالمسؤولية تمنعهم من الخوف، وتمنع الخوف عنهم في مواجهة حملات الاتهام بالعمالة التي يطلقها العجزةُ والكسالى والبلهاءُ والمشعوذون الذين لا يهتمون بمصائر شعوبهم. * كاتب مصري.