ليست الأزمة أزمة الأمين العام، وليست أزمة ميثاق الجامعة، كما أنها ليست أزمة الإجماع أو الغالبية، بل هي في جذورها أزمة النظام العربي في مستواه الاقليمي والقطري لأن منظمة تدير العمل الجماعي للدول الاعضاء تجسد بالضبط الصورة الحقيقية لأنظمتهم فرادى أو مجتمعين. وهذه هي حالنا بالضبط لأننا نفضل الحديث دائما عن الجذور. مَن منا ينكر على الأمين العام نشاطه؟ ومَن منا ينكر حسن نياته؟ ولكن ليس معنى تحركاته الكثيرة ان أجهزة الجامعة في مجالاتها المختلفة تتحرك وتتفاعل. هو يتحرك ولكن الأجهزة لا تتحرك فالعربة الفاخرة من دون محرك. إذ لا يعني جلوس سائق العربة خلف عجلة القيادة أنها قادرة على الحركة. هو يتحرك بمردود قليل والاجهزة تتحرك بمردود غير محسوس. هو يتمتع بالارادة الشخصية لكن العربة لا تتحرك اذ تنقصها الارادة الجماعية. والارادة الجماعية في جيوب اعضائها وأصحابها. هذا يذكرني بأيامي الأولى في الكلية الحربية حينما كان أحد الضباط المعلمين يقود فصيلتنا في أحد التمارين ويبدو ان المنظر العام لم يرض كبير المعلمين فأمر الضابط بأن يتحرك بالخطوة السريعة فنادى الضابط على الفصيل "قف" وأخذ يجري بنفسه بالخطوة السريعة. هو يجري فيما الفصيل واقف لا يتحرك! هل مثل هذه العربة تصلح لتلبية حاجات الجماعة وحاجات الجماعة متعددة وثقيلة وخطيرة، دفاع ووحدة اقتصادية وعمل دعائي وثقافي وسياسي، اتفاقات مكتوبة وموقع عليها وقرارات تصدر بالمئات لكن أحداً لا يفكر في كيف تنفذ أو تصبح حقيقة مجسدة. نضغط على "المارش" ولا تدور العربة لأن الارادة الجماعية غير موجودة! اتفاقات دفاع مع وقف التنفيذ، واتفاقات وحدة اقتصادية من دون ان تتجسد حقيقة واقعة، قرارات ثقافية تبقى على الورق. ولكن وحتى نلتزم الموضوعية فإن الاجتماعات الأمنية لوزراء الداخلية منتظمة ومنفذة بالتمام والكمال، وهذا طبيعي لأن أمن الانظمة له الاسبقية ومؤيد ذلك ان مباني أجهزة الأمن في العواصم العربية اضخم المباني فيما أماكن البحث العلمي في حجم علب الكبريت! الواجبات كبيرة جداً والرغبات والتطلعات ضخمة، لكن الآليات لا تتحرك رغماً عن الصدمات والزلازل التي تحدث في ساحتنا. وبدلاً من التوقف لدرس أسباب ذلك نستمر في الاجتماعات واصدار القرارات من دون نتائج مجدية فيزداد يأس واحباط الجماهير وتتراجع رغبتها في العمل الجماعي لأننا نحاول أن نزيد من حجم أحمال العربة من دون ان نركب لها محركاً. وهذا الوضع يشبه قصة جحا حينما كان ينتقل من منزله القديم الى آخر جديد، ركع على الأرض وأخذت زوجته في وضع العفش على ظهره وهو صامت لا يتكلم واخيراً سألته زوجته "باقي دولاب فهل أضعه على ظهرك؟" فأجابها المسكين: "لا عليك ضعيه هو الآخر فمن قال لك أنني سأقوم وأنهض أصلاً بأحمالي؟!". منذ البداية اعتقدنا ان التوقيع على الاتفاقات كفيل بتنفيذها، ولم نقدر أن التوقيع هو أولى الخطوات في طريق الألف ميل، اذ يتبع التوقيع دائماً وضع الخطط والخطط تنفذ على مراحل تبعاً للامكانات المبشرة والتنفيذ يحتاج الى متابعة لإصلاح الاخطاء وتعزيز الايجابيات. فالعملية عملية بناء، طوبة فوق طوبة والا لا يقام البناء وتظل الآمال مجرد حبر على ورق، توضع في الأضابير التي تحفظ في الاماكن المخصصة لها في مباني الجامعة الفاخرة على ضفة النيل الشرقية تحت سمع الأسدين وبصرهما في مدخل كوبري قصر النيل. في تقديري أن معاهدة الدفاع المشترك لعام 1950 كانت خطوة مبكرة لمنظمة لم يشتد عودها. ولو اقتصرت الأمور وقتئذ على مرد تعاون اقتصادي من دون التطرق الى المناطق الرمادية الخاصة بشؤون الدفاع لكان ذلك أجدى. كانت الجرعة كبيرة على وليد ناشئ فالعبرة ليست بالاتفاقات إذ انها مجرد حبر على ورق يحتاج الى تخطيط عاقل وتنفيذ واعٍ حتى تدب فيها الحياة. في مجال الدفاع وضعت الاتفاقات على وجود اللجنة العسكرية الدائمة التي تتكون من ممثلي هيئة أركان حرب جيوش الدول المتعاقدة والهيئة الاستشارية العسكرية التي تتكون من رؤساء أركان حرب الجيوش والتي تختص بالاشراف على اللجنة العسكرية الدائمة وفوق كل ذلك مجلس الدفاع المشترك الذي يتكون من وزراء خارجية ودفاع الدول المتعاقدة أو من ينوب عنهم، آليات ضخمة وكثيرة لا تعمل تركب فوق بعضها وتصبح مثل فيلٍ ضخمٍ بطيء الحركة. اللجنة العسكرية على سبيل المثال تختص بإعداد الخطط العسكرية لمواجهة جميع الاخطار المتوقعة وتقديم المقترحات لتنظيم قوات الدول وزيادة كفاية التسليح والتدريب لتتمشى مع أحدث الأساليب والتطورات العسكرية وتنسيق كل ذلك وتوحيده. وهناك فارق هائل بين ما هو مكتوب وما هو واقع في الطبيعة. فأفراد هذه التنظيمات لا عمل لهم يتناولون رواتبهم المرتفعة من دون مردود يؤدونه للصالح العام وليس هذا ذنبهم فالذنب يقع على الدول المتعاقدة. ولذلك فإلغاء هذه الاتفاقات بآلياتها أصبح واجباً يحتمه الواقع خصوصاً في ظل ما يأتي: - التجمد الحالي يحتم ذلك. - عدم الاتفاق على من هو العدو ومن هو الصديق. - بعض الدول المتعاقدة توافق على وجود القواعد العسكرية الاجنبية فوق اراضيها بل تقوم بدفع فواتير كلفة وجودها. - استخدمت هذه القواعد العربية في هجوم القوات الاجنبية على اراضٍ عربية. - الشك القاتل بين الدول عند إعادة توزيع القوات وتمركزها منذ فشلت كل المحاولات لإعادة تمركز القوات بناء على قرارات مؤتمر القمة 1964 لبحث موضوع تحويل مياه نهر الأردن وفشلت كل المحاولات لتكوين قيادة مشتركة لدول الطوق منذ نكسة 1967. بل وتمت حرب 1973 بالقتال على جبهتين في غياب قيادة موحدة. ويترك أمر الدفاع المتبادل للدول المتعاقدة كل بحسب التهديدات التي يراها الى أن تحين الفرصة لإعادة النظر في هذا الاتجاه. العمل الجماعي العربي والتعاون المتبادل أمر حتمي فهو بمثابة حلقة النجاة بالنسبة الى الجامعة العربية. ومن المعروف أن العمل الجماعي صعب التنفيذ لأنه يتم بين فرقاء بينهم اختلافات مشروعة وتختلف سرعة تحركاتهم وتتباين عند تنفيذ ما يتفق عليه، ولذلك كان نابليون على حق حينما قال: "أفضّل أن أحارب جماعة على أن أحارب في جماعة". تعدد الدول في منظمة وتباين وجهات نظرها يحتاج الى "عمود فقري" يقبض على الأمور. فهل يكون ذلك من طريق الأمين العام ذي الكفاية الممتازة يساعده جهاز فني قادر ومتخصص؟ المتأمل في مراحل التجربة على مدى عمرها الطويل يمكن أن يتجاسر ويقترح طريقة جديدة لإدارة العمل في هذه المنظمة وهي طريقة الادارة بالأهداف في كل المجالات. والاستراتيجية العليا التي نتخيلها لهذه الطريقة هي استخدام الموارد الهائلة للجماعة لمصلحة المجموع مع اعطاء الأسبقية للصالح القطري، إننا لا ندعو الى الإذابة ولكننا ندعو الى التعاون المتبادل لنحقق القوة والقدرة والمناعة القومية الجماعية لنتغلب على حالات الضعف القطرية التي فتحت الطريق أمام المعتدين والطامعين. والذي شجعنا على هذا الاقتراح هو نجاح بعض المشاريع المشتركة بين دولتين أو أكثر خارج نطاق الجامعة العربية: مشروع أنابيب الغاز بين مصر والاردن كمرحلة أولى، ومشروع قناة البحرين بين الاردن واسرائيل، والخط الملاحي بين نويبع المصرية والعقبة الاردنية، وخطوط الكهرباء المشتركة، وانتقال العمالة، وبعض الطرق البرية. ويحتاج الأمر الى تخطيط واع وتنفيذ دقيق ومتابعة مستمرة لتحديد المطلوب من الجماعة تحقيقه في مدى خمس أو 10 سنوات على سبيل المثال للزيادة المتصاعدة للربط والتعاون بين الدول المتعاقدة. يعني ما هو المطلوب لبناء القاعدة الوطيدة للانطلاق لتحقيق أهداف أكبر، نركز مثلاً على: - التمسك بالقومية العربية، كتب موحدة عدة تقرر في كل البلاد العربية لزيادة التعارف بين الدول الاعضاء والكتب مقررة كمواد تجري الامتحان فيها. - الفجوة الغذائية: هناك عجز في معظم السلع الغذائية في الوطن العربي عدا الاسماك والخضر والفواكه وتمثل الحبوب المكون الأكبر لهذه الفجوة لأن نسبة الاكتفاء الذاتي منها لا تتعدى 50 في المئة. - الارتفاع التدرجي بنسبة التجارة البينية بين البلاد العربية وهي لا تبلغ إلا 5،8 في المئة من إجمالي تجارتنا الخارجية علماً أن صادراتنا السلعية 3،243 بليون دولار بينما وارداتنا لا تتعدى 5،152 بليون دولار. - الحد من المديونية الخارجية للدول العربية المقترضة اذ بلغت قيمة الدين الخارجي 8،143 بليون دولار وقيمة خدمة الدين العام 8،13 بليون دولار. - المواصلات البرية والبحرية والجوية مع الاهتمام بالطرق العرضية فهي طرق وصل، اما الطرق الرأسية الى الخارج فهي طريق فصل. - الاستثمار وطرق تشجيعه وتحديد بعض المشاريع التي يتم فيها استثمار رأس المال العربي للحد من الطريقة الاستنزافية الحالية التي يتجه فيها الاستثمار العربي الى الخارج. طريقة الادارة بالاهداف تعمل في إطار خطة كاملة وتصور كبير وشامل لما نطمح أن نكون عليه خلال فترة معينة ثم تنفذ قطعة قطعة بين عدد من الدول يساعد تحركاتها الايجابي على رسم الصورة النهائية التي نطمع ان تتحقق، متابعة التنفيذ أسهل، تمويلها في متناول اليد، نتائجها مضمونة وفي حال نجاحها تشجع على خطوات أكبر وأسرع، المتابعة بواسطة الأمين العام الذي عليه رفع تقرير نصف سنوي لمجلس الجامعة يوضح فيه السلبيات والعقبات لعلاجها والايجابيات لتعزيزها وتقرير سنوي لمؤتمر قمة يعطي دفعة لما يحتاج الى ذلك. مكاتب الجامعة في الخارج تحتاج الى اعادة تقويم فماذا قدمت؟ وماذا حققت؟ ان اختصار عددها وزيادة الاهتمام بالتخطيط لها ومراقبة تنفيذها أمر أصبح حتمياً لدفعها الى التحرك. خفض أحمال الجامعة ومسؤولياتها يحقق لها خفة الحركة وتحديد استراتيجية عظمى لها يجعلها تسير في طريق معروف ومحدد يصل بها الى الغرض المحدد في البناء طوبة طوبة يرفع البناء على قواعد وطيدة، الادارة بالأهداف والتخطيط لها، والتنفيذ المخلص والمتابعة الجادة ستضع للعربة محركاً. نحن العرب لسنا أقل من غيرنا في الجماعة الأوروبية التي بدأت المشوار بعدنا وأصبح يحسب لها ألف حساب ونحن نمتلك كل وسائل القدرة التي تهيئ لنا المركز اللائق بنا. نحن لدينا العربة وكل ما نسعى إليه هو خلق المحرك، فهل هذا كثير علينا؟ وهل هذا خارج قدرتنا؟ ابداً والله، فلنتمسك بشجرة الزيتون بجذورها ونركب العربة الفخمة بالمحرك لنتجه بها الى الوجهة التي نريدها نحن حتى نتحرك بعد ذلك جماعة واحدة محترمة في سكة السلامة. * كاتب. وزير دفاع مصري سابق.