شاهدنا جميعاً الضربة الوحشية على العراق في الساعات الاولى من شهر رمضان المبارك، وغمر الشارع العربي شعور مختلط من الغضب والامتهان... الغضب من هذا العدوان الغاشم وعليه، والامتهان من عجز الارادة العربية عن الفعل أو رد الفعل. ولكن الأمر الذي يستحق النظر هو ان شلل هذه الارادة اصبح يتكرر وانه زاد العدوان في وقت قلّت قدرتنا على الردع. فالإرادة العربية متجمدة، امام ما يجري في العراق، وغائبة امام ما يجري في فلسطين، وهاربة من العدوان الاسرائيلي على لبنان الآن وايام عملية "السلام من اجل الجليل"، وايام مذبحتي الخليل وقانا، واخيراً اثناء التهديد التركي لسورية وتدخل مصر لنزع الفتيل موقتاً والى حين!... فهل تجمدت الارادة العربية وسقطت كما رأينا بالضربة القاضية ومرة واحدة ام بالنقاط بين كل نقطة واخرى ضربة ثقيلة قد تكون تحت الحزام؟! كانت الارادة العربية متآكلة بمرور الزمن بأيدينا بدلا من ان ندعمها بسواعدنا حين نبني البيت العربي طوبة طوبة، كما تفعل اوروبا التي بنت البيت الاوروبي في ظل تحديات قاسية حفزتها على مزيد من الصبر والعقل والارادة على إكمال المهمة. هذه قضية تحتاج الى وقفة لأن من العبث ان ينصرف الانسان الى شؤون اخرى وهو يرى انهيار داره، فمن المستحيل ان يبقى في العراء. تحدثنا جميعا بما فيه الكفاية عما فعلته الولاياتالمتحدة ورئيسها كلينتون بالاشتراك مع بريطانيا ورئيس وزرائها توني بلير في عملية "ثعلب الصحراء" وفي غيرها من العمليات، وتحدثنا كثيراً عن تطبيق الشرعية الدولية بطريقة انتقائية. وننام ونصحو على تصريحات اميركية بريطانية تعلن عن نيتها اعادة الضرب من دون اخطار مجلس الامن، ولكن لم يتحدث أحد عن الاداء العربي طوال نصف قرن، وهو ادى الى حدوث هذا الفعل المنكر والعدوان الوحشي على بلد شقيق يعاني شعبه أصلاً من نظامه من دون أي قدرة على الفعل او رد الفعل. فما الذي حدث لأمتنا العربية وما الذي دهاها حتى تصبح هكذا فتشجع كل من هب ودب على العدوان؟! لا بد ان نعرف - نحن العرب - ما فعلناه بدارنا وبيتنا وربعنا حتى نرى صورتنا الحقيقية في المرآة من دون رتوش، او تجميل... لا بد ان نعرف كيف نتعامل مع بعضنا بعضاً؟ وكيف ندخل في النهاية الى نفق مظلم نتيجة لقرارات خاطئة عاطفية من دون تقدير للنتائج والعواقب؟! لا بد ان نعرف ان التصرفات القطرية المتسرعة الخاطئة تؤثر في الاتجاهات القومية وتقتلها وتجعل منا فريسة سهلة لكل صياد. فالخطوة الاولى للعلاج هي معرفة الاخطاء حتى نواجه الحقيقة. علينا ان نعرف اولا ان المقصود بما يجري ضد العراق موجه في الاصل الى الامة العربية كلها من المحيط الى الخليج، فالغرض الاساسي هو تدمير القدرة العربية الشاملة وتجميد ترساناتها الحربية او تدميرها واستنزاف مواردها الضخمة... هم لا يصرحون بذلك ولكن هذا ما يفعلونه بنا... الدليل على ذلك تصريحات الرسميين الكويتيين التي نشرتها جريدة "الحياة" في 27/12/1998 فوزير الخارجية الكويتي صرح امام البرلمان بأن "الوضع خطير ويجب ان يعالج بتضحيات" ووزير المال يصرخ "بأن دخل الدولة لم يعد كافياً لمواجهة بند الرواتب في الموازنة" واعتبر وزير التخطيط ان "الصورة لا تبشر بالخير". علينا أن نلاحظ ان التدمير يحدث في العراق وفي الوقت نفسه يحدث في الكويت، تماماً كالاواني المستطرقة، ولكن التدمير في الحال الاولى يحدث بالصواريخ والقتل السريع، بينما يحدث في الحال الثانية على نار هادئة، الامر الذي يجعلنا نتساءل عما اذا كان الخلاف العراقي - الكويتي عام 1990 على مسائل النفط والقروض قد تم علاجه بالطريقة الصحيحة وفي اطار استراتيجية تنظر الى المستقبل القريب وتجعلنا نتساءل عما اذا كان اصلاح الموقف الخطير الحالي يمكن ان يتم عن طريق وزارات الدفاع والاقتصاد والمال ام عن طريق وزارات الخارجية؟! فبأيدينا فتحنا كل الطرق للهدم والتدمير فهل يمكن ان تسود الحكمة لنفتح المجال لأيدينا للسلام والبناء، لأننا احوج لأن يسود السلام بيننا اولا حتى نستطيع بناء السلام مع الغير. ولا يظن أحد انني احاول ولو للحظة واحدة ان ابعد الاتهام عن العراق، ولكني اتحدث عن افعالنا والطريقة الخاطئة التي ندير بها علاقاتنا العربية - العربية، وكيف نكون عتاة غلاظاً مع بعضنا بعضاً وكيف نصبح هادئين على قدر كبير من الوداعة مع الغير حتى لو ضرب او اعتدى! واذا استعرضنا البعض من شريط الذكريات، نجدنا امام مآسٍ متتالية تهدم ما نحاول ان نبنيه. فحينما قامت الوحدة الثنائية بين سورية ومصر العام 1958 استقبلها الشعب العربي من المحيط الى الخليج بالسرور البالغ العريض، اذ كانت حدثاً ضخما بحق جعل الرئيس التركي يرسل الى واشنطن برقية تحذير قال فيها: "نمتُ أمس وعلى حدودي دولة تعدادها ستة ملايين وصحوتُ في اليوم التالي لأجد على حدودي دولة تعدادها 30 مليوناً"، وجعل الشعوب العربية تتفاءل بأن الوحدة الثنائية ستصبح نواة للوحدة الشاملة المنشودة. واثناء بناء البيت الكبير حدثت بالضرورة اخطاء من الجانبين للتفاوت في المفاهيم ولاختلاف العوامل والظروف. وبدلاً من حصر السلبيات وعلاجها اولا بأول حتى لا تصبح الاخطاء خطايا انقض الانفصاليون على الوحدة ليذبحوها باستخدام القوات المسلحة وبدعم من قوى خارجية، وسارعت اجهزة الاعلام من الطرفين لتتبادل الاتهامات والشتائم لا لتبرير جريمة الانفصال فحسب ولكن لتكفير الناس بالوحدة على انها مجرد وهم وتسلط ايضا. وتهدم البيت الذي تم باستفتاء شعبي من الشعبين باستخدام القوة وكأن علاج الجسم المريض لا يتم الا بالقتل او الانتحار وكلاهما لا يشفيان المرض ولا يعالجان الاخطاء وتآكلت الارادة العربية وهي لا تزال في بداية التكوين! لم يكفر الشعب العربي بعقيدته الوحدوية ولم ييأس من صدقيتها او امكان قيامها. فحاول مرة اخرى - حينما سمحت الظروف - لبناء وحدة ثلاثية بين مصر وسورية والعراق في نيسان ابريل 1963 وكانت اقرب الى الاتحاد منها الى الوحدة إلا ان البعض رأى أن يرفع الشعار من دون محاولات جادة لتنفيذه لتحقيق اهداف حزبية. وبصفتي شاهدا على ما حدث من تصرفات غريبة اذ كنت سفيراً لبلادي في العراق في ذلك الوقت يمكنني ان اقرر ان عمليات الهدم بدأت من الدقائق الاولى بعد توقيع الاتفاق الى ان تم الغاء الاتفاق قبل تنفيذه، واصبح البيت الذي اتفق على بنائه لتوحيد الامكانات الهائلة للاقطار الثلاثة، التي كانت ستزيد من الارادة العربية مجرد أنقاض... محاولة اخرى للبناء تهدمت بأيدينا وافعالنا زادت من الشك في امكان بناء العمل الجماعي العربي خدمة للامن القومي العربي. مثل آخر على ما يمكن ان تفعله القرارات الخاطئة من قتل للارادة العربية. فقد حدث خلاف حزبي بين القيادتين القطريتين لحزب البعث في كل من دمشق وبغداد ادى الى موقفين غريبين: فحينما قامت الحرب بين العراقوايران وقفت سورية العضو في الجامعة العربية الى جانب ايران ضد العراق وهي عضو في الجامعة العربية ايضا وقامت القيادة السورية في الوقت نفسه بايقاف ضخ البترول العراقي لحقول الشمال والذي ينقله انبوب من كركوك الى ميناء بنياس على البحر المتوسط من دون النظر الى ما يمكن ان يترتب على هذا القرار من ردود فعل خطيرة. اذ حوّل العراق - وهو يخوض حرباً لا معنى لها مع ايران من دون التنسيق داخل الجامعة العربية - مصب انابيب البترول الى ميناء جيهان التركي فأصبحت تركيا بين يوم وليلة متحكمة ببترول الحقول الشمالية للعراق التي تتجه غرباً الى البحر المتوسط، وكذلك بمصادر المياه التي تغذي نهر الفرات بموجب اتفاقات محل شكوى دائمة من العراق وسورية. وقام العراق بخطوة اخرى خطيرة اثناء حرب الخليج الاولى مع ايران، فتحت ضغط ما عُرف وقتئذ بحرب الناقلات قام بتحويل مصبات الحقول الجنوبية التقليدية غربا الى ميناء المعجز على البحر الاحمر وجنوب الميناء السعودي ينبع بخمسين كيلومترا على مرحلتين استمرتا خمس سنوات: تم تنفيذ المرحلة الاولى "إبيسا 1" في اقل من عام بمد انابيب النفط ووصلها بالخط السعودي "بترولاين" الذي ينقل النفط السعودي من الخليج في الشرق الى البحر الاحمر غربا في ميناء ينبع. وفي عام 1987 بدأ تنفيذ المرحلة الثانية "إبيسا 2" بمد الخط الى ميناء المعجز وبلغ طوله 1575 كيلومترا بقطر 56 بوصة بطاقة 15،1 مليون برميل/ يوم، بتكلفة اجمالية 7،2 بليون دولار. وكان يمكن اعتبار مد هذا الخط عملاً تكاملياً رائعاً مع السعودية لولا القرار الخاطئ المفاجئ بقيام العراق باجتياح الكويت، فتوقف ضخ البترول في هذا الخط وذهبت النفقات التي تكبدها شعب العراق سدى، كما توقف ضخ البترول العراقي الذي يصب في ميناء جيهان التركي ايضا تنفيذاً لقرارات مجلس الامن بحصار العراق! وبعد نجاج عملية "عاصفة الصحراء" التي ادت الى انسحابه من الكويت وتقسيم العراق الى 3 اقسام من حيث سيادة السلطة المركزية وفرض الحصار على الشعب العراقي وتدمير ترسانته العسكرية التقليدية وفوق التقليدية لم ينس صاحب القرار العراقي وهو يرى انسحاب قواته ان يشعل النيران في آبار النفط الكويتية وأن يلقي بما تبقى من نفط في مياه الخليج. وعادت القواعد والقوات الاجنبية ومخازن التخزين الى المنطقة مع قيام دول الخليج بتدبير فواتير هذا الوجود! وكما نرى فإنه بقرارات عربية خاطئة دمرت القدرات العربية في غياب السقف والخطوط الحمراء التي تمنع تجاوز الخلافات بما يهدد الامن القومي العربي الذي اصبح مستباحاً... كلام ثقيل على النفس ولكن الحقيقة مرة كالعلقم وتزداد المرارة حينما تضاف هذه الخسائر العربية الى كشف المكاسب الاسرائيلية من دون ان تبذل اي جهد ومن دون أن تتكبد أي خسائر. والشريط الحزين يقف بنا عند هزيمة 1967، وهي كارثة عربية وليست مصرية او اردنية او سورية فقط، ليس لأنها دارت على ثلاث جبهات عربية في وقت واحد من دون قيادة مشتركة، وليس لأن جميع الجيوش العربية اشتركت فيها ولو بقوات رمزية، ولكن لأن العرب لم يحاولوا ان يبنوا قدراتهم الشاملة في ظل اتفاقية الوحدة الاقتصادية والدفاع المشترك لعام 1950، وكذلك لانهم لم يعترضوا على انفلات زمام الامور من ايدينا تجنباً لحرب وقعت في الوقت غير المناسب وبالأسلوب غير المناسب وبالحسابات الخاطئة. وأهم خسائر تلك الحرب تمثلت في ما فقدناه من موقف استراتيجي حاسم حينما انسحبنا من اراضٍ حاكمة في كل الجبهات. فقدنا سيناء بصحرائها الحاكمة ومرتفعات الضفة الغربية والجولان المسيطرة والقدس الشرقية مما احدث طموحاً في نظرية الامن الاسرائيلية، اذ تغير عامل الوقت والمسافة وكذلك فترات الانذار وزادت قدرة اسرائيل على توجيه الضربة الاولى لنا وقدرتها على امتصاص ضربتنا الاولى اذا وجهناها لتوجه ضربتها الثانية. ورغم النكسة فقد فشلت كل المحاولات لبناء قيادة موحدة او مشتركة لقيادة قوات دول الطوق. ونحن الآن، بعد 30 عاماً، نحاول جاهدين استرداد بعض ما فقدناه في تلك الحرب التعسة. ليس غريباً بعد كل ما ذكرناه ان نبحث عن الارادة العربية وقت عملية "ثعلب الصحراء" فلا نجدها، اذ دمرتها الثعالب العربية طوال السنوات الماضية وإن اختلفت الوسائل. فقدنا المواقع الاستراتيجية المتحكمة، وفقدنا الارض التي ورثناها عن الاجداد، وشجعنا الآخرين على ضربنا في الليل والنهار. ولكن كان الدور العربي في ما وصلنا اليه كبيرا وخطيرا، ولن تكف الثعالب الاجنبية عن ضربنا الا اذا كفت الثعالب العربية عن محاولاتها الطائشة التي تضطر مسؤولاً كويتياً للقول: "نحن مستعدون لأن نستعين بالشيطان لضمان حماية وجودنا واستقرارنا وكياننا بعد ان تحولنا الى لقمة سائغة للنظام العراقي". وهنا أتساءل: هل يمكن ان تتحول الثعالب العربية المدمرة الى شياطين تحافظ على الوجود والاستقرار؟! * كاتب، وزير دفاع مصري سابق.