تتشكل جامعة الدول العربية من دول مستقلة ترتبط في ما بينها بروابط قوية يفترض أنها تساعد على خلق أرضية لبناء مؤسسات مشتركة. غير أن عملية بناء مؤسسات مشتركة بين دول مستقلة تكتنفها عادة صعوبات وإشكالات يتعلق بعضها باختلاف موازين القوة بين الدول الأعضاء، وبعضها الآخر بالمعايير والضمانات التي تكفل ديموقراطية النظام المؤسسي نفسه وفاعليته. فعلى رغم التباين الشاسع بين الدول، من حيث عدد السكان والمساحة والثروات الطبيعية والتقدم العلمي والتكنولوجي، إلا أنها تتمسك جميعها بمبدأ السيادة وتصر على أن التعامل على قدم المساواة. وحاول التنظيم الدولي على مر العصور إيجاد الحلول لتلك المعضلة والتوصل إلى صيغة توفق بين الاعتبارات القانونية، المعنية أساساً بديموقراطية التنظيم، والاعتبارات العملية أو الواقعية، التي تركز على قضية الفاعلية في المقام الأول. من هذه الحلول: التمييز بين أجهزة المؤسسات المشتركة وفروعها، سواء لجهة العضوية بإنشاء أجهزة تمثل فيها جميع الدول وأخرى تقتصر العضوية فيها على عدد محدود أو لجهة الصلاحيات والسلطات بمنح بعض هذه الأجهزة من دون غيرها سلطة اتخاذ القرار الملزم، أي أن التمييز بين الدول الكبرى والصغرى يمكن أن يتم في صور وأشكال مختلفة كالحصول على مقاعد "دائمة" في فروع أجهزة محدودة العضوية وواسعة السلطات والاختصاصات، أو على ميزات خاصة في عملية اتخاذ القرارات، مثل حق الفيتو... الخ. غير أن ميثاق الجامعة العربية فضل الأخذ بمبدأ المساواة المطلقة بين الدول الأعضاء، كما تبنى أكثر الصيغ المؤسسية بساطة. فالهيكل التنظيمي للجامعة يتشكل من مجلس ومن لجان نوعية تعالج الأمور الفنية. وجميع الدول الأعضاء ممثلة على قدم المساواة سواء في مجلس الجامعة أم في اللجان النوعية، بل إن الميثاق لم يهتم حتى بتحديد مستوى تمثيل الدول سواء في مجلس الجامعة أم في اللجان النوعية. ولما كان من الصعب على بنية مؤسسية على هذا القدر من البساطة أن تفي بالاحتياجات المتزايدة لنظام إقليمي عربي ناشئ يبحث لنفسه عن دور، خضعت للتطوير تحت ضغوط مجموعتين رئيستين من العوامل، الأولى تتعلق بتطور التنظيم الدولي عموماً. إذ استحدثت المنظمات العالمية والإقليمية التي نشأت في مرحلة لاحقة على نشأة الجامعة العربية تقنيات مبتكرة وأكثر فاعلية في مجال بناء المؤسسات الدولية، كان من الطبيعي أن تحاول جامعة الدول العربية الإفادة منها، وهو ما حدث بالفعل. ولذلك يمكن القول إن شبكة المنظمات العربية المتخصصة التي أنشأتها جامعة الدول العربية في مرحلة تالية جاءت تقليداً للنموذج الذي استحدثته الأممالمتحدة في هذا الشأن، كما أن إبرام اتفاق الوحدة الاقتصادية العربية، وما ترتب عليه من إنشاء كيان مؤسسي مستقل يعرف باسم مجلس الوحدة الاقتصادية العربية، جاء كرد فعل عربي لقيام السوق الأوروبية المشتركة... وهكذا. أما المجموعة الثانية من الاعتبارات فتتعلق بتطور الصراع مع إسرائيل وبما فرضه من تحديات تعيّن على العالم العربي مواجهتها. وتعتبر المؤسسات التي استحدثت في إطار معاهدة الدفاع العربي المشترك والتعاون الاقتصادي، المبرمة عام 1950، أو المؤسسات العربية المشتركة الخاصة باستغلال نهر الأردن وروافده، أو غير ذلك من المؤسسات الإقليمية التي قامت لتنظيم بعض جوانب العلاقات العربية أو لتنظيم علاقات الدول العربية بالدول الأخرى، نتاجاً مباشراً لتطور هذا الصراع. والواقع أن التطورات الناجمة عن تفاعل هاتين المجموعتين من العوامل هي التي أدت إلى ظهور بنية مؤسسية عربية تبدو، من حيث الشكل على الأقل، وكأنها تضم كل ألوان الطيف من الهياكل والآليات والتقنيات. فالهياكل التنظيمية القائمة بالفعل تضم شبكة هائلة من المنظمات العربية المتخصصة يفترض أنها أقيمت على نمط الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة، وآلية للأمن الجماعي العربي يجسدها اتفاق دفاع مشترك يفترض أنه يعمل وفقاً للضوابط المفترض توافرها في نظم الأمن الجماعي أو الأحلاف الدفاعية، وآلية للتكامل والاندماج الاقتصادي يجسده اتفاق الوحدة الاقتصادية العربية يفترض أنه يعكس تصوراً نظرياً وعملياً لمراحل وأدوات تحقيق هذا الاندماج. غير أن الشكل لا يدل دائماً إلى الجوهر، فقد اكتفت الجامعة العربية بالنقل الشكلي من دون المضمون. فإذا نظرنا إلى شبكة المنظمات العربية المتخصصة، التي تبدو نسخة مكررة من شبكة الوكالات المتخصصة المرتبطة بالأممالمتحدة، نجد أن هذا التشابه يقتصر على الشكل فقط. أما من حيث الجوهر والمضمون فتبدو الشبكة العربية مختلفة تماماً عن الشبكة الأممية من زاويتين على الأقل: الأولى: أنها لم تقم وفقاً لتصور نظري أو عملي مسبق، ولذلك اتسمت حركتها بالعشوائية وعدم التنسيق، بعكس الحال في منظومة الأممالمتحدة التي عكس ميثاقها رؤية محددة لما يجب أن تكون عليه العلاقة مع الوكالات المتخصصة، من منطلق أن الأممالمتحدة يجب أن تكون نواة للتنظيم العالمي الشامل وليس مجرد منظمة عامة الاختصاص. لذلك تضمنت البنية المؤسسية لمنظومة الأممالمتحدة آليتين للتنسيق مع الوكالات المتخصصة، إحداهما باتفاق تعاقدي ملزم للطرفين، والآخر من خلال لجنة إدارية للتنسيق يترأسها السكرتير العام للأمم المتحدة وتضم في عضويتها مديري الوكالات المتخصصة. أما جامعة الدول العربية فظلت لسنوات طويلة تفتقد إلى هذا الوضوح في علاقتها بالوكالات العربية المتخصصة، ولذلك اتسمت حركة إنشاء الوكالات المتخصصة على الصعيد العربي بالعشوائية والفوضى. الثانية: خلو شبكة المنظمات العربية المتخصصة من منظمات قادرة على أداء وظائف تنفيذية أو عملية 0perational مماثلة للوظائف التي تقوم بها منظمات مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي للتعمير والتنمية أو منظمة التجارة العالمية. ولا يعود هذا الغياب إلى أسباب هيكلية فقط، تتعلق ببنى الاقتصادات العربية ودرجة تكاملها ومتطلبات تحركها كمنظومة فرعية ترتبط بالنظام الاقتصادي العالمي، وإنما أيضاً إلى طبيعة النظم السياسية في العالم العربي ورفضها الانخراط في مؤسسات تطبيق قاعدة التصويت الترجيحي بدلاً من قاعدة المساواة. وربما توجد، للإنصاف، تجربة عربية وحيدة تقترب من هذا النموذج وهي تجربة إنشاء الصندوق العربي للإنماء الاجتماعي والاقتصادي التي وافق عليها المجلس الاقتصادي بتاريخ 16/5/1968. لكن صغر رأس مال هذا الصندوق 100 مليون دينار كويتي عند الإنشاء، وتفضيل الدول العربية الغنية تقديم مساعداتها في شكل ثنائي ومن خلال صناديق وطنية، قلل من فرص وإمكان تطوير هذا النوع من المؤسسات العربية المشتركة. إما إذا نظرنا إلى الطريقة التي يتعامل بها النظام العربي مع مسألة الأمن الجماعي فسنجد أن الأمر لا يخلو بدوره من مفارقة. إذ بدت معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي، حين أبرمت بين دول الجامعة عام 1950، وكأنها قادرة على إحداث نقلة نوعية في مؤسسات العمل العربي المشترك. فقد استحدثت هذه المعاهدة أجهزة وآليات عمل جديدة تمثلت في: إنشاء لجنة عسكرية دائمة تتكون من ممثلي هيئة أركان حرب جيوش الدول العربية المتعاقدة، ومجلس للدفاع المشترك يتكون من وزراء الخارجية والدفاع أو من ينوبون عنهم، ومجلس اقتصادي يتكون من وزراء الاقتصاد أو من يمثلونهم. كما نص البروتوكول الإضافي للمعاهدة على تشكيل هيئة استشارية عسكرية تتكون من رؤساء أركان حرب الدول المتعاقدة للإشراف على اللجنة العسكرية الدائمة. كما استحدثت المعاهدة في الوقت نفسه آلية جديدة لاتخاذ القرارات في مجلس الدفاع المشترك بغالبية الثلثين معتبرا أن ما يقرر بهذه الغالبية يكون ملزماً لجميع الدول المتعاقدة، وهو ما يختلف جذرياً عن آلية اتخاذ القرارات في مجلس الجامعة نفسه والتي تقوم على قاعدة "أن ما يقرره المجلس بالإجماع يكون ملزماً لجميع الدول المشتركة في الجامعة وما يقرره المجلس بالأكثرية يكون ملزماً لمن يقبله". غير أنه سرعان ما اتضح أن هذا التجديد، الذي بدا ثورياً في ظاهره، لم يكن كذلك في جوهره على الإطلاق. فقرارات مجلس الدفاع المشترك، والتي تتخذ بالغالبية وتلزم الجميع، ليست نهائية وإنما يتعين إقرارها من جانب مجلس الجامعة الذي يتخذ قراراته بالإجماع! ولهذا ظلت قرارات مجلس الدفاع العربي المشترك، خصوصاً ما يتعلق منها بإنشاء قيادة عربية موحدة، مجرد حبر على ورق ولم تر النور إلا عندما صدق عليها مؤتمر القمة العربي الذي عقد في القاهرة العام 1964 ويطلق عليه مجازاً مؤتمر القمة العربي الأول وحاول وضع خطة شاملة لمواجهة مشاريع إسرائيل الخاصة بتحويل مجرى نهر الأردن. لكن افتقاد العمل العربي المشترك للقواعد والأصول التنظيمية الواضحة جعل من المستحيل على هذه القيادة أن تؤدي وظائفها بطريقة سليمة. وبعبارة أخرى يمكن القول إن العالم العربي، وبسبب خلل في بنية نظمه السياسية، عجز عن الإفادة من التقنيات المؤسسية أو التنظيمية المطبقة في نظم الأمن الجماعي أو في نظم الأحلاف الدفاعية المعروفة عالمياً أو إقليمياً. فلم يكن ممكناً إقامة مجلس دفاع عربي مشترك على نمط مجلس الأمن الدولي أو إقامة منظومة عسكرية دفاعية مماثلة للمنظومة العسكرية المشكلة في إطار حلف شمال الأطلسي. وأخيراً إذا نظرنا إلى الطريقة التي يتعامل بها النظام العربي مع قضية التكامل والاندماج الاقتصادي نجد أنها لم تراع أيضاً القواعد والضوابط المؤسسية الكفيلة بتحقيق أي تقدم يذكر على هذا الصعيد. إذ اكتفى مجلس الجامعة العربية بإبرام بروتوكول عام 1959 أسبغ بموجبه صفة الكيان الذاتي على المجلس الاقتصادي المشكل من قبل بموجب معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي السابقة الإشارة إليها والمبرمة العام 1950. ثم عاد واتخذ قراراً عام 1977 بالموافقة على تعديل المادة الثامنة من اتفاق الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي. وبموجب هذا التعديل تغير اسم المجلس الاقتصادي ليصبح "المجلس الاقتصادي والاجتماعي" وأصبح من ضمن مهماته "الموافقة على إنشاء أي منظمة عربية متخصصة والإشراف على حسن قيام المنظمات الحالية بمهماتها". ولم يمثل هذا التعديل، في تقديري، خطوة إلى الأمام على طريق التكامل والاندماج الاقتصادي، وفقاً للنهج الأوروبي مثلاً، وإنما كان خطوة متأخرة لربط الجامعة العربية، مؤسسياً، بالمنظمات العربية المتخصصة. في هذا السياق تبدو تجربة التكامل العربية مختلفة كلية عن تجربة التكامل الأوروبية. ومن المعروف أن أوروبا ظلت، وعلى مدى قرون عدة، نهباً لصراعات دموية رهيبة غذتها عوامل محلية وإقليمية وعالمية، راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر، وتسببت في حربين عالميتين مدمرتين. غير أن تحولاً مفاجئاً طرأ على مجمل هذه العوامل بعد الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها أوروبا منهكة تماماً. إذ وجدت أوروبا نفسها بعد هذه الحرب تقف ليس فقط خارج حلبة المنافسة على قيادة النظام العالمي وإنما معرضة أيضاً، وربما للمرة الأولى في تاريخها، لاحتمال وقوعها تحت هيمنة القوى الجديدة المتنافسة على هذه القيادة. وفي سياق هذا التحول بدت أوروبا الغربية وكأنها تواجه مصيراً موحداً في مواجهة تهديد أكبر من قدرتها على مواجهته. وكان من الطبيعي أن يؤدي هذا الوضع إلى تراجع الخلافات والتناقضات الأوروبية وتحولها إلى تناقضات ثانوية مقارنة بالتناقض الرئيس بين أوروبا ككل وبين الاتحاد السوفياتي، وهو وضع لم يترك أمام أوروبا الغربية خياراً سوى التحالف مع الولاياتالمتحدة ليشكلا معاً كتلة موازية للكتلة الشرقية. وفي تقديرنا أن سياسة الولاياتالمتحدة تجاه العالم كانت العامل الأكثر حسماً في تحديد مصير التجربة التكاملية الأوروبية. فلو أن الولاياتالمتحدة اختارت، عقب الحرب العالمية الثانية، سياسة العزلة التقليدية التي انتهجتها عقب الحرب العالمية الأولى لما قامت للوحدة الأوروبية قائمة على الإطلاق. فتقدم الولاياتالمتحدة لزعامة المعسكر الغربي كان يعني أنها باتت على استعداد لتحمل أعباء هذه الزعامة، بما في ذلك كلفة الجهود الرامية إلى المحافظة على أوروبا الغربية موحدة، خلف قيادتها، لمواجهة الخطر السوفياتي المشترك. ولهذا لم تتردد في تقديم معونة اقتصادية ضخمة لأوروبا الغربية، من خلال مشروع مارشال، بلغ حجمها 128.8 بليون دولار بين 1948 وبين 1952 وحدها، وفي تقديم مظلة أمنية لها من خلال حلف الأطلسي. وقد شكلت المعونة الاقتصادية والمظلة النووية ركيزتين أساسيتين لانطلاق حركة التكامل والاندماج الأوروبية. لكن وجود عامل دولي ملائم لم يكن كافياً وحده لتمكين حركة التكامل والاندماج الأوروبي من الانطلاق. إذ تعين التغلب على معوقات كثيرة تمثل أهمها في عقدة الأمن المستعصية التي تميز العلاقات الألمانية - الفرنسية. ولحسن حظ أوروبا هيأت لها الأقدار في تلك المرحلة شخصيات فذة من أمثال الفرنسي جون مونيه. إذ ساعدت عبقرية هذا الرجل وخبرته العميقة بالشؤون الأوروبية على بلورة مشروع ساعد على تهيئة الأجواء ليس فقط لحل هذه العقدة المستعصية ولكن أيضاً لانطلاقة قوية لتجربة التكامل الأوروبية. ويعتبر مونيه صاحب المشروع الذى تبناه وزير الخارجية الفرنسي شومان في ذلك الوقت وحمل اسمه مشروع شومان وأسفر عن إقامة "الجماعة الأوروبية للفحم والصلب" عام 1952 بعد إبرام الاتفاق الخاص بها عام 1951. ولم يكن اختياره لقطاع الفحم والصلب نقطة لعملية التكامل والاندماج الأوروبيين اعتباطاً، بل كان اختياراً عبقرياً لسببين: الأول، سياسي - أمني، والثاني: اقتصادي - فني. إذ ساعد هذا الاختيار، من جهة، على التغلب على عقدة الخوف الفرنسية المستعصية من ألمانيا بوضع هذه الصناعة، وهي أساس الصناعة العسكرية، تحت سلطة أوروبية مشتركة. ولأن هذا القطاع كان في ذلك الوقت أضخم القطاعات الاقتصادية ويمثل عصب الصناعة الأوروبية فإن وضعه تحت سلطة أوروبية مشتركة كان لا بد وأن يؤدي، من جهة أخرى، إلى تزويد تجربة التكامل الأوروبية بقاطرة قادرة على جر عربات التكامل الأخرى التي يمكن أن تنضم إليها في ما بعد. فنجاح تجربة التكامل الأوروبي في مجال الفحم والصلب لا بد من أن يقود بطبيعة الحال، وبحكم الارتباط العضوي بين هذا القطاع وقطاعات أخرى قوية ومؤثرة في الاقتصادات الأوروبية، إلى توسيع نطاق التجربة التكاملية ومدها إلى بقية هذه القطاعات، وهو ما حدث بالفعل. وتميزت البنية المؤسسية للتجربة الأوروبية بعدد من الخصائص أضفى توافرها طابعاً فريداً على هياكل وعملية صنع القرار فيها، مقارنة بمحاولات التكامل والاندماج الأخرى على الصعيدين العالمي والإقليمي: وأول هذه الخصائص يكمن في تمتع مؤسسات الاتحاد الأوروبي، كل في مجال اختصاصه، بسلطات حقيقية في مواجهة الدول الأعضاء. إذ يحق لهذه المؤسسات إصدار قرارات ملزمة وواجبة النفاذ في الميادين والمجالات التي حددتها المعاهدة، وهي ميادين متعددة ومهمة، مما يضفي على تلك المؤسسات سمة فوق قومية. وثانيها يكمن في تمكن التجربة الأوروبية من العثور على صيغة مؤسسية متوازنة تجمع بين ديموقراطية التنظيم، بمراعاة مبدأ المساواة في السيادة بين الدول الأعضاء، وبين فاعليته، بمراعاة اختلاف الأوزان والقدرات النسبية لهذه الدول. فهناك فروع وأجهزة مشكّلة على أساس المساواة في التمثيل بين الدول ووفقاً لقاعدة أن لكل دولة صوتاً واحداً، وتتخذ فيها بغالبية خاصة كبيرة أو حتى بالإجماع. ويشكل ذلك ضماناً كافياً، خصوصاً بالنسبة للدول الصغيرة والمتوسطة، للحيلولة دون المساس بقاعدة السيادة والمساواة التي تحرص عليها. وهناك فروع أخرى تمثل فيها الدول بعدد من المقاعد أو تتمتع فيها بثقل تصويتي يتناسب وأوزانها النسبية. فاللجنة الأوروبية تتكون من 20 مقعداً تتمثل فيها كل من ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا وإسبانيا بمقعدين أما بقية الدول الأخرى فتتمثل بمقعد واحد. وفي البرلمان الأوروبي يراوح عدد المقاعد المخصصة لكل دولة بين 99 لأكبرها تعداداً ألمانيا، وستة مقاعد لأصغرها تعداداً لوكسمبورغ. وفي المجالس الوزارية الأوروبية تراوح الأصوات المخصصة بين 10 أصوات للدول الكبيرة ألمانياوبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وصوتين للدولة الأصغر لوكسمبورغ. وثالث هذه الخصائص يكمن في وجود نواة لنظام مؤسسي أوروبي مشترك يقوم على وجود سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية مستقلة، وعلى محاولة الفصل الكامل وتحقيق الرقابة المتبادلة بينها. فهناك برلمان أوروبي مستقل ينتخب انتخاباً مباشراً من المواطنين في الدول الأعضاء وله سلطة سحب الثقة من اللجنة. وهناك محكمة عدل أوروبية تتشكل من 15 قاضياً وتتمتع باستقلال كامل في مواجهة السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأحكامها ملزمة وواجبة النفاذ. ويلعب جهاز المحاسبات الأوروبي دوراً مهماً في الرقابة المالية على الموارد والنفقات. وعلى رغم أن التوازن بين هذه السلطات ما يزال مختلاً لمصلحة السلطة التنفيذية، إلا أن هناك محاولات جادة ومستمرة لإصلاح هذا الخلل. كما يلاحظ، على صعيد آخر، أن التجربة الأوروبية نجحت في إشراك جماعات المصالح المختلفة في عملية اتخاذ القرار من خلال إشراكها في عضوية "اللجنة الاقتصادية والاجتماعية" أو "اللجنة الاستشارية" حيث تتطلب بعض مراحل وإجراءات عملية صنع القرار داخل هذه اللجان ضرورة الحصول على موافقة جماعات المصالح المعنية. ورابع هذه الخصائص يكمن في وجود صمامات أمن تضمن استمرار التجربة الأوروبية وتحول دون التفافها حول نفسها. فالدول المنخرطة في التجربة هي دول ديموقراطية تعتمد الليبرالية السياسية أساساً ومنهجاً للحكم وتنظيم المجتمعات في الداخل. ولم تتمكن الدول الأوروبية التي كانت مسيرتها الديموقراطية تعثرت، لأسباب اجتماعية وتاريخية، مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال، من الانضمام إلى قافلة الوحدة إلا بعد استقرار الأوضاع وتثبيت دعائم الديموقراطية فيها. ولم تقبل تركياً عضواً في الاتحاد الأوروبي لأسباب كثيرة من بينها أن الأسس الديموقراطية للنظام التركي لم تستقر بعد وأن الجيش ما يزال مركز الثقل الرئيس للنظام السياسي. وتلعب الديموقراطية في تجربة التكامل والاندماج الأوروبية دوراً مزدوجاً بالغ الأهمية وتعد شرطاً لا تستقيم التجربة التكاملية من دونه. فعملية التكامل والاندماج، خصوصاً إذا كانت تتم وفقاً للمنهج الوظيفي، عملية مؤسسية في المقام الأول، والدولة التي لا تتخذ فيها القرارات من خلال مؤسسات ديموقراطية منتخبة تحظى بالشرعية لن يكون في مقدورها أن تشارك في عملية بناء المؤسسات المشتركة على الصعيد الإقليمي، والتي هي بدورها عملية ديموقراطية في جوهرها. يضاف إلى ذلك أن غياب الديموقراطية في الداخل قد يشكل مصدراً للفوضى وعدم الاستقرار ويتسبب في تعطيل مسيرة البناء التكاملي أو الاندماجي. وأخيرا فإن الديموقراطية تعتبر أداة مهمة جداً لضبط إيقاع حركة المسيرة التكاملية. فهي تساعد ليس فقط على إيجاد حلول فنية للعديد من العقبات السياسية، من خلال ضمان المشاركة النشطة لجماعات المصالح المختلفة في مراحل صنع القرار، وإنما أيضاً على تحاشي الاندفاع أو التباطؤ في العملية التكاملية بأكثر مما ينبغي، وتسهم في ضبط إيقاع العملية بالقدر اللازم لاستيعابه جماهيرياً في الدول الأعضاء. وربما يفسر هذا العامل كثرة اللجوء إلى أسلوب الاستفتاءات في التجربة الأوروبية. والواقع أننا إذا نظرنا إلى الواقع العربي في مرآة التجربة الأوروبية نجد أن الشروط كافة التي تضافرت لإنجاح هذه التجربة تكاد تكون غائبة كلية بالنسبة إلى التجربة العربية. فأولاً: لم يتوافر للتجربة العربية في أي من مراحل تطورها بيئة دولية أو إقليمية حاضنة لقضية الوحدة أو ملائمة لنموها. صحيح أن وجود تحديات خارجية كبيرة لعب دوراً مساعداً للإبقاء على الفكرة القومية حية في الضمير العربي، غير أن الخلل في موازين القوى لعب دوراً مهماً في إجهاض كل المحاولات الوحدوية العربية، ساعد عليه فشل النخب العربية الحاكمة في التعامل مع القوى الخارجية المعادية وإدارة العلاقات معها بطريقة تحمي الحركة الوحدوية وتحول دون إجهاضها. وأيا كان الأمر فمن المؤكد أنه لم تتوافر للحركة العربية في أي من مراحل تطورها قوة دولية مؤثرة راغبة في حمايتها أو قادرة على مساعدتها للوصول إلى غايتها. فكما تعاملت بريطانيا إيجاباً مع الحركة في طورها التقليدي، أثناء الحرب العالمية الأولى، للإفادة من طاقتها في إضعاف الإمبراطورية العثمانية، تعامل الاتحاد السوفياتي إيجاباً أيضاً مع هذه الحركة، خصوصاً في طورها الثوري أو الراديكالي، للإفادة من طاقتها في إضعاف النفوذ الغربي في المنطقة. لكن لم يكن في مقدور أي من التيارين، التقليدي أو الثوري في العالم العربي، توظيف علاقته ببريطانيا أو بالاتحاد السوفياتي للوصول بالتيار الوحدوي إلى غايته. وثانياً: لم تتوافر للتجربة العربية قيادة براغماتية من نوع جون مونيه تعرف كيف تختار نهجها التكاملي بطريقة مبتكرة قادرة على التوفيق بين الاعتبارات السياسية والاعتبارات الاقتصادية. ولم يصل الوضع الداخلي في جميع الدول العربية تقريباً إلى درجة النضج التي تسمح له بتحييد حركة التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية بين الدول والشعوب العربية حتى لا تتأثر بالخلافات السياسية بين الأنظمة العربية، وهي الدعامة التي يستحيل من دونها تطبيق المنهج الوظيفي على تجربة التكامل والاندماج العربية. فعدد كبير جداً من الدول العربية لا يمتلك معظم المقومات التي تجعل منها دولاً حقيقية بالمعنى الأوروبي. وبعضها أقرب إلى شكل القبيلة أو الشركة المساهمة منه إلى شكل الدولة. وجميعها يخلو من سلطات تشريعية حقيقية أو سلطات قضائية مستقلة أو من أحزاب أو رأي عام واضح يمكن التعرف إليه وقياس اتجاهاته بطريقة شفافة أو دقيقة. ومع التسليم بوجود جماعات مصالح أو جماعات ضغط وتيارات أيديولوجية وفكرية مختلفة، إلا أن المناخ السائد في معظم الدول العربية، إن لم يكن فيها جميعاً، لا يساعد في التعرف إلى أوزانها الحقيقية أو على علاقات القوى بينها، ولذلك يحدث التغيير عادة على نحو مفاجئ، وفقاً لنمط الانقلابات العسكرية حيناً أو مؤامرات القصور أحياناً أخرى، أو يتعين الانتظار حتى رحيل "الزعيم" كي يحدث التغيير الذي يأخذ شكلاً انقلابياً بدوره. وفي سياق كهذا يصعب قبول الدول العربية وضع أي قطاع إنتاجي أو خدمي مهم تحت سلطة عربية مشتركة، أو الموافقة على بناء مؤسسات عربية تتخذ فيها قرارات ملزمة بالغالبية، أو التخلي عن المساواة المطلقة والقبول بأفكار التمثيل النسبي أو التصويت الترجيحي على نحو يعكس تفاوت الأوزان الفعلية للدول العربية في آليات صنع القرار. ولأن فاقد الشيء لا يعطيه كان من المستحيل أن تتمكن دول تفتقر إلى البنية المؤسسية في تنظيمها الاجتماعي الداخلي من المشاركة في إقامة بنية مؤسسية فاعلة على المستوى الإقليمي. ولهذا السبب لم نترك لخيالنا العنان حين قامت الدول العربية بتوقيع اتفاق يقضي بإقامة منطقة تجارة حرة بينها في نهاية فترة زمنية تستغرق عشر سنوات، ودخل هذا الاتفاق حيز التنفيذ الفعلي اعتباراً من بداية العام 1998. وكان من الواضح أن الاتفاق لم يغير شيئاً من جوهر الأنظمة والسياسات العربية التي استمرت وفق نمطها المعتاد. إذ عصفت الخلافات السياسية بهذا الهدف المتواضع، كما عصفت باتفاقات كثيرة غيره. وحتى بافتراض أن هذا الهدف يمكن أن يتحقق، بسبب الضغوط الناجمة عن اتفاق التجارة العالمية وليس لأي سبب آخر، فلا يوجد إطلاقاً ما يضمن أن يكون إنشاء منطقة التجارة العربية الحرة بداية عملية تكامل أو اندماج اقتصادي حقيقي. فذلك يتطلب شروطاً سياسية محددة يلزم العمل على توفيرها في الواقع العربي وهي ليست متوافرة الآن، خصوصاً بعد احتلال العراق. وأول هذه الشروط توفير مظلة سياسية أمنية تحمي العالم العربي من الاختراق الخارجي ومن الكوارث السياسية الداخلية، ولتوفير مناخ صالح لحماية العمل العربي المشترك وضمان تقدمه واستمراريته، بصرف النظر عن سرعة إيقاعه. فمهما كان بطء معدل الحركة على صعيد العمل العربي المشترك فالأهم هو ضمان الاستمرارية والحيلولة دون الدوران حول النفس حتى لا نبدأ في كل مرحلة من نقطة الصفر. وأي عمل عربي مشترك في أي مجال يتطلب سلطة مشتركة لإنجازه وهياكل تنظيمية ومؤسسية وآليات محددة لصنع القرار الملزم والفاعل وفي التوقيت المناسب. وسيتعين على الدول العربية أن تحل معضلة بناء المؤسسات في الداخل أولاً كي يصبح في مقدورها بناء مؤسسات فاعلة على المستوى الإقليمي. غير أن العالم العربي يواجه ظروفاً استثنائية في المرحلة الراهنة. فمنذ أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 تبدو الولاياتالمتحدة مصممة، تحت ذريعة مقاومة الإرهاب، على تغيير الواقع السياسي والثقافي للعالمين العربي والإسلامي وفقاً لرؤيتها وتصوراتها هي لمتطلبات هذا التغيير، وبدأت خطتها الطويلة الأمد "لمكافحة الإرهاب" بإسقاط نظام "طالبان" واحتلال أفغانستان، وثنّت بإسقاط نظام صدام حسين واحتلال العراق بعد تدميره تماماً، ولن تتوقف قبل تدمير المنظمات كافة التي تعتبرها "إرهابية" في العالم العربي، وإسقاط جميع النظم التي تعتبرها عاصية أو غير متعاونة، وإجبار كل النظم التي ترضخ لشروط التعاون بوضع سياسات تربوية وثقافية وإعلامية تستجيب للمعايير الأميركية والإسرائيلية! وليس معنى ذلك أن الولاياتالمتحدة ستكرر الوسائل نفسها التي استخدمتها في أفغانستان وفي العراق، لكنها تبدو مصممة على تحقيق أهدافها بصرف النظر عن الوسائل المستخدمة. ويرى قطاع من النخبة في العالم العربي أن هذا الضغط الأميركي الرهيب ربما يكون فرصة للإسراع في عملية تغيير سياسي وثقافي كانت تبدو ملحة منذ زمن طويل لكنها مستحيلة التحقيق من دون ضغط خارجي. لكن المعضلة هنا أن التغيير الذي سيتم وفقاً للمعايير الأميركية والإسرائيلية سيتناقض كلية مع نوع التغيير الذي تهفو إليه أفئدة الجماهير العربية. من هنا فإن إصلاح العالم العربي يحتاج إلى إطلاق عملية تغيير مزدوجة الأبعاد ومتوازية التوقيت، أحدها يستهدف المستوى المحلي القطري، والآخر يستهدف المستوى الإقليمي القومي. من هنا تبدو حاجة ماسة إلى قيادة إقليمية تقود التغيير. ولأنه لا توجد دولة إقليمية منفردة قادرة على تحمل عبء هذه القيادة، فضلاً عن المخاطر والسلبيات التي كشفت عنها محاولات القيادة المنفردة للنظام العربي خلال المراحل السابقة، فإن الأمل ما زال معقوداً على توافق مصري - سوري - سعودي لمواجهة أخطار المرحلة المقبلة. واللافت أن هذا التوافق كان هو الأقدر على تحقيق الحد الأدنى من التماسك الذي مكن النظام العربي من تحقيق إنجازات مهمة في مراحل مختلفة من مراحل تطوره. فالتوافق المصري -السوري - السعودي هو الذي تمكن من محاصرة سياسة الأحلاف وأسقط حلف بغداد في الخمسينات، وهو الذي تمكن من صنع النصر في 1973، بتحقيق التوافق بين استخدام القوة العسكرية وسلاح النفط، بل ومن دونه ما كان يمكن للولايات المتحدة أن تحصل على الغطاء السياسي اللازم لإضفاء الشرعية على حرب تحرير الكويت! غير أنه يتعين تأكيد أننا لا نطالب هنا بإنشاء محور عربي، فسياسة المحاور العربية مرفوضة من حيث المبدأ، ولكننا نطالب بتوافق عربي بين "مجموعة دول نواة" تكون مؤهلة لتشكيل قاطرة تملك من القدرة ما يمكنها من جر عربات النظام العربي المتهالكة وقيادة عملية التغيير المؤسسي الكفيلة بتمكين هذا النظام من مواجه التحديات التي تهدده بالفناء. فإذا لم تكن هذه الدول الثلاث قادرة على أن تقيم بينها تجربة تكاملية فاعلة تكون بمثابة النموذج والمحرك لما يجب أن تكون عليه العملية التكاملية العربية الشاملة، فمن العسير توقع النجاح لأي محاولات تستهدف الإصلاح الشامل للنظام العربي ككل في هذه المرحلة. والواقع أن من يتأمل بعمق مسيرة تجربة التكامل الأوروبية سيكتشف أنها كثيراً ما تعثرت وواجهت عقبات بدت في حينها مستعصية. وفي كل مرة كان التوافق الفرنسي - الألماني هو القادر دائماً على إقالة التجربة الأوروبية من عثرتها ووضعها على الطريق الصحيح. وبالمنطق نفسه يمكن القول إن التوافق المصري - السوري - السعودي ربما يكون هو الوحيد القادر على إخراج النظام العربي من أزمته الراهنة. وإذا لم تكن لم تتمكن هذه الدول الثلاث بالذات من الاتفاق في ما بينها وطرح رؤية مشتركة لكيفية مواجهة التحديات الراهنة وتعين الانتظار لبلورة مشروع توافق عليه وتتفاعل معه جميع الدول الأعضاء في الجامعة العربية، فعلينا أن ننتظر طويلاً، وربما طويلاً جداً. ولكي تكون هذه الرؤية واقعية وفاعلة فلا بد من أن تتضمن اتفاقاً على أسلوب للتعامل مع التحديات السياسية والأمنية الراهنة، خصوصاً ما يتعلق منها بإدارة الصراع مع إسرائيل أو إعادة تأهيل العراق. فالحديث في الظروف الخطيرة الراهنة عن سوق عربية موحدة أو عن إصلاحات شكلية لمؤسسات العمل العربي المشترك سيكون مجرد لغو لا معنى له ولا طائل من ورائه. * رئيس قسم العلوم السياسية في كلية الاقتصاد - جامعة القاهرة.