عنوان المقال غريب على عالم السياسة الذي لا يعرف الحب والرغبة او العزوف والكراهية وإلا انقلبت الممارسة في هذا المجال الغريب الى ممارسة عاطفية بين الدول، اساسها الاستلطاف والنفور، وهذا أخطر المحاذير التي قد يقع فيها اصحاب القرار... المقياس الوحيد الذي يحدد الاتجاه السياسي للدول هو المصلحة، إذ ليست هناك صداقة دائمة او عداوة دائمة ولكن توجد مصلحة دائمة، والمصالح متغيرة تبعاً لتغير الظروف، وبذلك يمكن ان يصبح عدو اليوم صديق الغد او يصبح صديق اليوم عدو الغد. ولا داعي للتحدث عن المصالح المشتركة بين الدول العربية، بل من التكرار الممل الحديث عن التهديدات المشتركة التي تعصف بالأمة العربية وتحتم توحيد الجهود والموارد في اطار عمل عربي جماعي. فكل هذا معروف، وقد يكون حافزاً لدعوة وجهها وزير الدفاع المصري يوم 22 حزيران يونيو 1998 لتكوين تكتل عسكري عربي لمواجهة التحديات التي تواجه الامة العربية وتحقيق التقدم التكنولوجي، "فالدول العظمى تدخل في تحالفات عسكرية مثل حلف شمال الاطلسي لأن أي دولة لا تستطيع ان تعيش بمفردها، كما ان ازدهار الامم والشعوب لا يتحقق الا بقوات مسلحة قادرة على حمايتها"، وقد توقفت كثيراً امام رد الفعل العربي السلبي امام هذه الدعوة المخلصة. فلم يكن هناك اي تعليق عليها من الجهات المعنية، وقد يقال انه كان من الواجب التمهيد لهذه الدعوة الخطيرة قبل اعلانها بالاتصالات السرية مع العواصم المعنية، أو ان الدعوة تمت في وقت الخلافات العربية - العربية العاصفة التي استحال في ظلها عقد مؤتمر قمة عربي، فما بالك اذا كانت الدعوة الى تكتل عسكري، أو انه يستحيل بناء تكتل عسكري في ظل غياب الارادة السياسية التي تحركه، فالتكتل السياسي هو اساس اي تكتل عسكري او اقتصادي او ان الاعلان عن هذه التكتلات يكون من وزارة الخارجية وليس من وزارة الدفاع. رغم المحاولات الصادقة احياناً والجهود العابثة احياناً اخرى، فشلت الأنظمة العربية في بناء الإطار الصالح الذي يضمن مصالحها ويحقق امنها القومي. ويتمثل هذا الفشل على المستوى القومي في العجز الواضح للجامعة العربية الذي يلمسه الجميع، وعلى المستوى الجهوي في ضعف "مجلس التعاون الخليجي" وتجمد "الاتحاد المغاربي" وترنح "اعلان دمشق" الذي وُقع على عجل بعد عملية "عاصفة الصحراء" بعدما اعلن عن نهاية وموت "مجلس التعاون العربي" بين مصر والعراق والاردن واليمن، الذي تم في ظله الاجتياح العراقي للكويت! ومن المعروف ان اي عمل جماعي داخل جبهة من الجبهات هو شيء معقد يحتاج الى مهارة اعضائه في حل الخلافات الطبيعية التي تنشأ بين وقت وآخر لعدم تطابق المصالح، لدرجة ان كفاءة اي عمل من هذا النوع تقاس بقدرته على التوفيق بين تناقضات اعضائه. وان نتحدث عن عمل عربي جماعي وأن ندعو له، ليس أمراً غريباً او استثنائياً لأن الغرابة الحقيقية هي في انه لم يتحقق حتى الآن، وان ننصرف عن الحديث عنه بالتحدث عن نظام عالمي جديد يتجه الى التفتت ونمو النعرات القومية، كما حدث في القرن 19، واذا كان يحلو لبعض الكتّاب الاجانب الكتابة في هذه الامور، في وقت يعملون هم فيه على تدعيم تكتلاتهم الكبرى التي تبنى في الشمال، فإن على كتّابنا ان يؤكدوا على مخاطر هذه الاتجاهات ويزيدوا من وعي الامة للتكتل في عالم لا يعترف إلا بالكيانات الكبيرة في كل المحاور حتى تتمكن الاسماك الكبيرة من الاستمرار في أكل الاسماك الصغيرة تحت رايات العولمة والخصخصة والاسواق المفتوحة والنظام العالمي الجديد!.. جديد في ماذا؟ وجديد لمن؟ هذا هو السؤال... وقف البعض امام فشل العرب في إقامة نظام لعملهم الجماعي وقفة متفحصة، وكان إيمانهم بوجود الرغبة في إقامة البناء لا يتزعزع الا عند القليل، في وقت انشرت فيه القومية العربية ومحاولات بناء الوحدة وكان كل همهم البحث في القصور في استخدام القدرات العربية الهائلة في اقامة المظلة العربية المنشودة. ومعنى ذلك انهم ارجعوا الفشل الى عدم المعرفة، أي عدم توفر القدرة مع توفر الرغبة، وربما ارجعوا الفشل الى عدم معرفة بقواعد العمل الجماعي للجهل بالسلوك الجماعي الذي يقلل من التناقضات الطبيعية التي تحدث في دهاليز العمل الكبير وهي متشعبة ووعرة مثل: مراعاة مصالح الدول الاعضاء وتنسيقها ضمن المصالح القومية، احترام الرؤساء بعضهم بعضاً وتقدير ظروفهم الخاصة والضغوط التي يتعرضون لها، الخلاف في الرأي يحتاج الى مزيد من الحوار ولا يتسبب في القطيعة، التدرج في تحقيق الاهداف الكبيرة وفقاً للإمكانات المتاحة، طمأنة الدول الصغرى ازاء مخاوفها الطبيعية من الدول الكبرى، عدم القفز الى قرارات جديدة من دون التحقق من تنفيذ القرارات السابقة، فليست العبرة بتوقيع المواثيق وإصدار القرارات، ولكن العبرة باحترامها وتنفيذها وتحويلها الى امر واقع. إلا أن الأمل في إقامة البناء كان كالسراب، فكلما ظن البعض ان الغرض اصبح في متناول اليد، وجدوا أنهم كانوا يقبضون على الماء رغم ان الامن العربي اصبح مستباحاً، وعلى رغم ان الذئب تمركز وسط الديار، وهنا أخذ التساؤل الملح عن صدق نيات القائمين على الامور في تحقيق العمل العربي الجماعي مما يتسبب في عدم قدرتهم على تحقيقه. ولم يكن من السهل الوصول الى رأي قاطع في القضية الخطيرة لأن الرغبة ترجع الى النيات، وهذه علمها عند الله، ولكن ان تترك المسائل التي تتعلق بمصير الامم وقضاياها التي تتعلق بأمنها القومي هكذا في كف القدر، تتحرك في مناخ غامض نحو مصير مبهم، لم يكن بالأمر الصحيح، فكان لا بد من مواجهتها بالحقيقة مهما كانت مرارتها، باستقراء المواقف والأحداث حتى نصل الى الحقيقة حتى لو كانت استقرت في القاع بضغط ورضاء الذين لا يريدون ولا يرغبون. وكان لعملية "عاصفة الصحراء" الفضل الأكبر في الكشف عن الحقيقة، لأن إقدام النظام العراقي على فعلته الخطيرة إزاء جاره العربي - رغم ما يقال من مبررات - فجر قضية خطيرة تتعلق بجدوى هذا النظام العربي الجماعي الذي اقدم الجار في ظلمه على اجتياح جاره؟ ما صدقية مواثيق الجامعة العربية بما فيها معاهدة الوحدة الاقتصادية والدفاع المشترك العام 1950؟ وهي اسئلة مشروعة ولكنها توضع في الاطار الخاطئ وكأنها كبش فداء لفشل الجميع في بناء هذا النظام المرجو، فالأنظمة لا تقيم ابدا بمواثيقها الممعناة ولا باتفاقياتها الموقعة وقراراتها المجمدة لأن الصراع ليس صراع كتل او مواثيق ولكنه صراع إرادات تتحرك على مسرح الأحداث لفرض او رفض الامر الواقع. والارادة تبنى بالعرق والدم ولا تكون ابدا وليدة اللحظة التي نحتاج فيها اليها، إذ انها ليست عملا عفويا تتحرك فور الضغط على الازرار، ولكنها شيء جبار يحتاج تكوينه وبناؤه الى النحت في الصخر، مع صدق في النيات وقدرة على العمل ومهارة في التخطيط والتنفيذ. كانت الارادة العربية غائبة، وكانت المواثيق التي تنظم اعمالها مجرد حبر على ورق، وكانت النظم التي توجهها مجمدة، وكانت المظلة المراد بناؤها غير مشرعة. فأن توضع الارادة العربية وهي على هذه الحال في قفص الاتهام، وان يوضع العمل العربي الجماعي الذي جمّده القائمون على بنائه كشماعة نعلق عليها فشلنا، امر غير عادل ولا مقنع، وهو مجرد هروب من مواجهة الحقيقة التي يعد الاعتراف بها بمثابة الخطوة الاولى في الطريق الصحيح. فشل القائمين على الأمر في بناء الأنظمة الجماعية ادى الى هزائمنا المتكررة التي افقدت الجماهير العربية الثقة في قدرتهم الذاتية، علماً بأنني اؤكد ان القدرة العربية الجماعية لم تختبر حتى الآن في اي مواجهة من المواجهات. فالبرغم من وجود عناصرها الهائلة، الا انها ظلت وحتى الآن تفتقر الى الادارة الحكيمة والقيادة الرشيدة والتوجيه السليم، فمن منا لا يريد ان يعمل في ظل وحدة القوى العربية؟ ومن منا لا يريد ان يرى امته من المحيط الى الخليج في عزة وما تستحقه من مكانة؟ من منا لا يريد تحقيق آمال امته خصوصا مع توفر الوسائل التي وهبنا الله إياها من اتساع في المساحة والعمق، ووفرة في القوة البشرية، وكثرة في المواد الاولية والمياه والنفط والغاز ورؤوس الاموال؟ عدم معرفة توجيه هذه الموارد في الاتجاه السليم مع الخطأ في تحديد الاعداء والاصدقاء الذي يترتب عنه التوجيه الخاطئ لسلاح سنستورده بالبلايين ادى الى الفشل الذي نراه وهو من فعل ايدينا وهذا ادى بدوره الى ان يحل العزوف عن العمل الجماعي محل الرغبة في اعماله علماً بأنه حلقة النجاة الباقية في حوزتنا حتى الآن. ويقينا فما كان يمكن للعراق ان يقدم على فعلته تلك عام 1990، لو كان النظام العربي قائماً لأن وحدة القوى الكامنة في النظام الجماعي تتصدى آلياً للمخطئ. كما أن الإرادة الجماعية القوية تحول دون أي نزعة خبيثة فردية تحاول الخروج عن الجماعة، وبذلك فإن أي تنازل عن جزء من السيادة النظرية لمصلحة الارادة الجماعية القومية فيه الضمان لتحقيق امن الجميع، وعلينا ان نتساءل: ألم يكن العمل العربي الجماعي هو العنصر الفاعل في انتصار العراق في حربه مع ايران؟ ألم تكن وحدة بعض العرب هي الجسر الذي يسّر الحشد العالمي في عملية "درع الصحراء" للقيام بعد ذلك بعملية "عاصفة الصحراء" لطرد العراق من الكويت وما نجم عن العملية من عواقب وخيمة بعد ذلك؟ ثم اذا كانت الجامعة العربية التي لم يكن في يدها الا بعض الاوراق والمواثيق فشلت في التصدي للعدوان العراقي، فأين كانت الجهود العربية الاخرى؟ ولماذا نرى بعض الدول العربية تسحب ثقتها من العمل الجماعي على المستوى القومي وتتقوقع داخل عمل جهوي تحت حماية مظلة اجنبية تدفع نفقاتها على المستوى الاقليمي؟. لقد ادى الانصراف عن العمل العربي الجماعي على المستوى القومي الى تحكم الدول الصغرى في الاتجاهات السياسية لباقي دول الجماعة، والى قبول البعض بوجود القواعد العسكرية الاجنبية في الاماكن التي تختارها بما في ذلك من عدوان على السيادة واستنزاف للموارد، والى اعطاء الفرصة للطامعين لفرض انظمة اقتصادية شرق اوسطية او متوسطية بديلاً للأنظمة العربية، والسماح للقوى الأجنبية بتحطيم الترسانات العربية لمصلحة توازن القوى الاسرائيلي، الى ان اصبحت اسرائيل تصول وتجول في المنطقة لدرجة وضع يدها على القدس الشريف التي جعلها الله أمانة في أيدينا. المعادلة مقلوبة ولا بد من تصحيحها، فالعمل العربي وليست المظلات الاجنبية هو ما يحقق الامن القومي العربي، والعودة الى رفض القواعد الأجنبية هو توجيه سليم للبوصلة العربية، وانتظام الدول العربية صغيرها وكبيرها داخل المنظومة العربية هو الضمان الوحيد للأجيال الحالية، والمقبلة وعدم استجداء حصولنا على حقوقنا المنهوبة من غيرنا هو احترام لذاتنا وكرامتنا. ومعنى ذلك ان نبدأ تنظيم بيتنا وريعنا أولا حتى تتحقق القدرة، وهنا ستتوفر الرغبة في المحافظة على البيت ومن فيه، فيحترمنا الغير لأننا احترمنا انفسنا، فنحن خير أمة أُخرجت للناس. * كاتب، وزير دفاع مصري سابق