فتحت دمشقوأنقره صفحة جديدة في علاقاتهما الثنائية تتوج مسيرة تقارب بدأت منذ ما يزيد على عامين شهدت تطورات إيجابية متلاحقة، آخرها نزع الألغام على طول الحدود بين البلدين منذ عام 1952، ما أسهم في تعزيز مناخ الثقة وحسن الجوار وإعادة ترتيب أولويات التعاون على أسس ومعطيات مختلفة. ويحظى الدفء المتنامي بين الجارتين بأهمية متزايدة في ظل الظروف والمتغيرات الدولية المتسارعة إقليمياً ودولياً خصوصاً بعد احتلال العراق وطرح "خريطة الطريق" والتهديدات الأميركية لسورية والحملة على إيران وما يحدث من خلط بين الإرهاب والمقاومة المشروعة. ومن هذا المنطلق تعد زيارة رئيس الوزراء السوري مصطفى ميرو الأخيرة لأنقره بعدما تأجلت أكثر من مرة خطوة تاريخية وتأخذ أبعاداً مهمة لأنها الأولى لرئيس حكومة سوري إلى تركيا منذ 18 عاماً، كما أنها تخرج عن نطاق التعامل الديبلوماسي، إذ نقل خلالها رسالة من الرئيس بشار الأسد إلى نظيره التركي أحمد نجدت سيزار فحواها فتح صفحة بيضاء وإرساء صداقة حقيقية تجسّد الرغبة المشتركة. ولا بد من أن قدراً من التفكير والتأني يضعنا أمام عدد من الحقائق التي ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار حتى وإن انتهينا إلى الإجابة بأن هناك علاقة سببية لتطوير ما بين البلدين. ومن هذه الحقائق: - توافر الإرادة السياسية والرغبة المشتركة بين البلدين للبناء على ما أنجز في العامين الماضيين من خلال الزيارات المتبادلة لوفود ومسؤولين رفيعي المستوى إضافة إلى استئناف عمل اللجان المشتركة وتوقيع سلسلة اتفاقات تعاون وتفاهم. وجاءت مشاركة الرئيس سيزار في مراسم تشييع الرئيس الراحل حافظ الأسد ولقاؤه الرئيس بشار الأسد لتؤكد رغبة أنقره في تطوير علاقاتها مع دمشق، التي لم تتوان بدورها عن إظهار هذه الرغبة وتجسيدها على أعلى المستويات. ولعل زيارة نائب الرئيس عبدالحليم خدام محطة فاصلة في مجال التقارب وتبلور ملامح التعاون بين البلدين. - التنبه إلى خطورة المحاولات الإسرائيلية الرامية إلى تأطير العلاقات بين سورية وتركيا في أطر محدودة تتعلق بقضايا الأمن والمياه لمنع أي تقارب لا يخدم ما تخطط له واشنطن وتل أبيب. - إجراء كل بلد إصلاحات داخلية واسعة والانفتاح على دول الجوار، فبدأ كل طرف يكتشف أهمية الآخر، وتدرك سورية التي تمتلك حدوداً مشتركة مع تركيا تزيد على 800 كيلومتر وتتقاسم معها مياه نهري دجلة والفرات، أهمية هذه العوامل لبناء مصالح مشتركة بدلاً من السلبية، وتنظر إلى تركيا من خلال أهمية موقعها كهمزة وصل بين الشرقين الأدنى والأوسط وكونها معبراً بين آسيا وأوروبا، وهذا الموقع البالغ الأهمية دفع الولاياتالمتحدة إلى إقامة علاقات مع أنقره حتى تبقى رأس حربة في المنطقة تحمي المصالح الأميركية جنباً إلى جنب مع إسرائيل. وفي المقابل، فإن لتركيا مصالح متعددة في علاقاتها مع العرب عموماً وسورية خصوصاً، أهمها النفط كمصدر حيوي للطاقة لديها، ومن هنا يأتي حرصها على تدعيم علاقاتها مع دول الخليج واهتمامها باتفاق النفط في مقابل الغذاء بين العراق والأمم المتحدة، وأهمية تعزيز العلاقات التجارية مع سورية. إذ تحتل تركيا المركز الأول بين الدول المتعاملة مع سورية، وأكثر من نصف إنتاج المصانع التركية يصدر إلى البلاد العربية وتغطي بضائعها معظم الأسواق العربية. وليس هذا فحسب، بل إن نسبة السياح العرب الذين يزورون تركيا هي إضعاف غيرهم، إضافة إلى أن النفط العربي يمر عبر أراضيها. ومن هنا أيقنت تركيا أن المكاسب التي يمكن أن تحصل عليها من وراء التغريد في السرب التحالفي مع إسرائيل، لا يمكن في أي شكل أن تقاس بما يمكن أن تكسبه في ما لو وضعت في سلم أولوياتها مصالح الشعب التركي. فمصلحة أنقره تقتضي نسج علاقات جيدة مع جيرانها وتغليب لغة الحوار بغية التوصل إلى تفاهمات عن النقاط التي تسمم العلاقات الثنائية، لأن ما بين دول المنطقة وتركيا من الروابط والعلاقات ما يكفي لتحقيق الازدهار والتنمية من دون الحاجة إلى الاتكاء على ما هو مصطنع ودخيل. وأثبتت الأيام ماضياً وحاضراً وسيثبت ذلك مستقبلاً أنه إلى زوال. وظلت تركيا إلى أمد قريب تبحث عن دور مشرقي جديد بعد التبدلات الدولية التي عصفت بالعالم وتراجع هواجس الحرب الباردة، غير أنها وجدت أن وضع بيضها في سلة واحدة لن يطعم خبزاً شعباً يعيش أزمات متعددة بدءاً من الهوية وانتهاء بالهموم المعيشية والسياسية الأخرى. كما أن الاستمرار في سياسة الابتزاز والتلويح بعصا المياه والعمال الكردستاني أفقدها ليس روابطها مع العرب فحسب، بل أبقى المسافة التي تفصلها عن الاتحاد الأوروبي على ما هي. في حين تقاطرت عشرات الدول "العدوة" سابقاً إلى أوروبا على رغم المشكلات المتعلقة بهذا الموضوع مع أنقره. ومن هنا يمكن النظر إلى سلسلة الإصلاحات التي يعمل حزب "العدالة والتنمية" على إقرارها متحملاً عناء المواجهة مع الرئيس والجيش خصوصاً في ما يتعلق منها بالحريات الممنوحة للأكراد. لذلك راح التفكير التركي البراغماتي يقلب الأوراق جيداً بعد قراءة متأنية للواقع الإقليمي والعربي والدولي وانكشاف عوالم جديدة في آسيا والقوقاز والبلقان. فما كان من أنقره إلا أن حثت الخطى في اتجاه الإفادة من عوامل القوة لديها، الجغرافية والسياسية والاقتصادية. وفي حين ظلت عينها على أوروبا وسلكت طريق الانفراج مع أثينا وانعكاس ذلك على استئناف المفاوضات حول مستقبل الجزيرة، أثبتت وجودها عسكرياً في أفغانستان، ولمغازلة واشنطن التفتت إلى العالم العربي حيث الروابط التاريخية والروحية، فوطدت علاقاتها مع دول الخليج ومصر، وتمضي علاقاتها مع سورية قدماً في اتجاه التأسيس لصفحة جديدة بعيداً من الهواجس. لذلك يمكن القول إن العلاقات التركية - السورية مرشحة لمزيد من التطور خصوصاً بعدما توافرت الإرادة السياسية على أعلى المستويات. فسورية التي كانت دائماً تنشد علاقات جيدة ليس مع أنقره فحسب، لن تدخر جهداً في خدمة قضايا التعاون وحسن الجوار والإفادة من الجغرافيا للوصول إلى ما هو مصلحة للجميع، وهذا ما أكد عليه دائماً الرئيس الأسد في مؤتمرات القمة العربية والإسلامية، فكيف الآن وقد آلت الأمور إلى ما هي عليه في العراق والضغوط التي تواجهها على غير صعيد والتي تحتم رؤية جديدة في التعاطي مع جميع المواضيع الداخلية والخارجية. * صحافي سوري.