اختتمت قبل أيام فاعليات الدورة السادسة والخمسين لمهرجان لوكارنو السينمائي الدولي الذي شهد حضوراً سينمائياً وجماهيرياً كبيراً تمثل في مشاركة 400 فيلم ما بين روائي طويل وقصير، وجمهور حرص على متابعة المهرجان طوال عشرة ايام، من السادس من آب اغسطس حتى السادس عشر منه. حال سينمائية صاخبة يشعر بها المتشوق الى الفن ومنتظر مثل هذه الاحتفالات السينمائية لينعم بجرعة غير قليلة من الفن والمتعة، ويكفي أن نعيش هذه الحالة: سينما من الصباح الى المساء وجمهور توافد الى متابعتها وصحافيون ونقاد يسعون الى ملاحقة الافلام من مكان الى آخر مقابل متعة روحية ربما يفتقدونها طوال العام. وعلى رغم درجات الحرارة المرتفعة التي شهدتها اوروبا ولم تعتدها من قبل أتى الجمهور يوماً بعد يوم خصوصاً الى الساحة الكبرى في مدينة لوكارنو التي يصفها النقاد بأنها "فترينة المهرجان" إذ أن نظرة واحدة على هذه الساحة كل مساء تجعلك قادراً على تقويم المهرجان خصوصاً لدى الجهور العام، إذ تتحول هذه الساحة فترة المهرجان ومنذ الثامنة مساء الى مسرح مفتوح، فتغلق الشوارع الجانبية وتطفأ أنوار المنازل الموجودة بالساحة وتبقى فقط المطاعم والحانات المطلة على الساحة ويبقى فيها جمهور آخر يضاف الى جمهور المهرجان، وفي التاسعة والنصف تماماً تدور الساعة ويسود الصمت بين سبعة آلاف متفرج من دون همهمة او اصوات هواتف محمولة، الجميع في انتظار بدء مراسم عرض الافلام اليومية. سينما الزمن الجميل فعلى شاشة عملاقة يبلغ عرضها 26م وارتفاعها 14م وبتكنولوجيا عرض سمعية وبصرية هائلة، يستمتع جمهور غفير بأمسيات عذبة تعبر فيها الى الاذهان سينما الزمن الجميل، حينما كانت فيه السينما لحظات مهمة ومقدسة للاكتشاف والتواصل وإثارة المشاعر. تنظيم هائل وجيش من الشبان والشابات في خدمة ضيوف المهرجان في أي من اماكن العرض التي تجاوزت العشر قاعات. دقة في المواعيد فلم يتأجل فيلم بسبب أو لآخر ولم يبدل فيلم بآخر وبقي البرنامج كما هو منذ بدء المهرجان وحتى نهايته. باختصار تنظيم يكاد يكون كما الساعة التي اخترعها السويسريون، مواعيد العرض بالدقيقة، باصات لنقل الجمهور لا تتأخر في القيام أو الوصول من مكان إلى آخر، الجميع يعاملك بلطف وديع يشعرك بأنك في مكانك الطبيعي ولك كامل الحقوق من دون ان يعبأ احد بجنسيتك، تشعر وكأنك مواطن سينمائي في مدينة تمنحك الاحترام والاهتمام ولا تميز بينك وبين الآخرين، الجميع فيها سواء: الصحافي والناقد والعامل في السينما حتى المواطن والسائح العادي. لا يمكن ان يكون خلف هذا الا ادارة ناجحة وضعت هدفاً واحداً وهو تهيئة مناخ عام يستمتع فيه الجميع بالفن السابع. ولم يمح مستوى الافلام - على الاقل مستوى المسابقة الرسمية - حال المتعة تلك، وقد وجدت افلام اخرى ومتعددة خارج المسابقة الرسمية قدمت رؤية سينمائية مشرفة لوجوه مختلفة من شتى انحاء العالم ووجوه مطحونة ويائسة وربما معدمة، حتى غلب على المهرجان جو القتامة والحزن والمعاناة منذ جاءت الافلام لتعبر عن فترة نعيشها جميعاً، ليس في العالم العربي فقط بل في العالم كله، ذلك ما نستطيع أن نستشعره من جولة خاطفة على افلام المهرجان واقسامه المتعددة التي زادت على العشرة اقسام كل منها معني بهدف ما. مجتمعات تتفكك جاءت افلام المسابقة الرسمية وهي القسم الرئيس بالمهرجان بتسعة عشر فيلماً تمثل سبع عشرة دولة، رأى بعض النقاد أنها بشكل او بآخر، اعتمدت المرأة عنصراً اساسياً تدور حوله الاحداث، وينعكس عليه شكل الحياة الاجتماعية. فيأتي "ماريا" من رومانيا ليقدم وجهاً لام وزوج يعيشان حياة فقيرة وربما معدمة تتحول الى جحيم مع تسريح الاب من المصنع الذي يعمل فيه بعدما آلت ملكية هذا المصنع الى رجل اعمال اميركي ويضطر الأب ان يبيع جسده حتى يوفر لقمة العيش لاسرته، وتمضي ماريا في الطريق نفسه داخل مجتمع لا يوفر حياة كريمة ويهاجم الرذيلة التي اصبحت مرادفاً للحياة، تلك الحياة التي تفقدها ماريا من دون ان تنعم بلحظة سعادة فيها، قد يعتقد البعض ان صورة كتلك ربما تكون متوقعة في مجتمعات اوروبا الشرقية حيث الفقر والحياة الصعبة، لكن بلاداً أخرى مثل فرنسا واميركا تقدم طرحاً غير بعيد من ذلك. فنجد الفيلم الفرنسي "لعب شاق وعمل شاق" يعرض حال شاب وضع نفسه داخل قوانين صارمة ومجتمع لا يرحم، ذلك المجتمع الذي يقدمه الفيلم البريطاني "ستة عشر عاماً من الكحول" منهاراً وقائماً على تفكيك اسري رهيب، وشاب يحب نفسه في مواجهة أب شرس وقاس يخون زوجته أمام ابنه ولا يخجل من ذلك، الامر الذي يولد داخل هذا الابن رغبة كبيرة في الانتقام من كل شيء، وبخاصة من المجتمع، فيدخل في عصابة خطيرة وينحرف في كل الاتجاهات ولا يستطيع الحب أن ينقذه من تلك الحياة، فقط الموت يصبح الخلاص الوحيد والملجأ الاخير للراحة والامان، امان لم يعد العالم يوفره لاحد حتى لفتاة صغيرة لم تتجاوز الثالثة عشرة وهو عنوان الفيلم الاميركي، الذي يصفه احد النقاد بأنه لكمة شديدة في المعدة، تدين المجتمع وتوثق لنمط من الحياة الاجتماعية المعاصرة التي يعرض الفيلم صورة منها في المجتمع الاميركي، إذ نجد فتاة صغيرة تغرق في جحيم المشكلات الاجتماعية داخل الاسرة، وتخرج الى مجتمع لا يرحم واتباع حياة لا تتأخر عن تحطيم كل شيء، إذ تمضي الفتاة مع رفاق السوء وتكتسب خبرة سيئة وتجرب كل شيء: الخمور والمخدرات والجنس ولا يستطيع أحد ان ينقذها من ذلك الضياع الذي يستمر حتى النهاية المأسوية. حال اخرى من الضياع يقدمها الفيلم الايطالي "الآن وإما ابداً" تمثلها مجموعة من الشباب، ينضمون الى التيار المناهض للعولمة والرأسمالية التي طغت على العالم، ويعتزمون التوجه الى مدينة جنوى التي شهدت موت التحضر والديموقراطية في العالم الذي يدّعي هذه الحقوق حينما صرع شاب ايطالي من مناهضي العولمة في التظاهرات التي خرجت ضد اجتماع الدول الثماني في المدينة قبل عامين. الفيلم يقترب من هذه الصورة الواقعية بمفردات متناغمة ترصد علاقات تصارع على قيادة الفريق وصداقة وحب وتنتهي بالضياع بعدما يعتقل قائد الجماعة في الطريق قبل أن يصل الى المدينة ويتعرض لألوان متعددة من العنف والتعذيب تفقده كل شيء حتى الثقة في نفسه، فيخرج من المعتقل بعد أن اكتشف انه عاجز في مواجهة ذلك الغول/ السلطة. استطاع المهرجان ان يقدم الى الجمهور افلاماً عدة تطرح قضايا مختلفة وإن كانت جميعها تدين بشكل او بآخر المجتمع المعاصر الذي اصبحت فيه الرأسمالية هي السلطة الأعلى التي تقهر الافراد سواء على المستوى النفسي أم الجسدي، والمهرجان وجوهاً لرجال ونساء مهمشين يبحثون عن هوياتهم ويأتون من بلاد مجهولة للمهرجان مثل كازاخستان وبوليفيا وباكستان، وبلاد اخرى مثل ايران، وفرنسا، وايطاليا، وسويسرا بصفتها بلد المهرجان. حقوق الإنسان ومن العالم العربي جاءت افلام قصيرة تحمل وجوهاً وقضايا ليست بعيدة او مغايرة تدور جميعها في فلك حقوق الانسان وهو القسم الذي حددته ادارة المهرجان ليضم اعمالاً سينمائية من بلاد العالم تعمل في إطار واحد وهو حقوق الانسان. ويهدف قسم سينما حقوق الانسان الى تقديم السينما الشجاعة، وغير المعروفة للجمهور الاوروبي حتى تعبر عن صوت المهمشين وضحايا العنف في كل مكان، ولم تكن هذه التيمة السينمائية موضوعاً سهلاً يمكن اختصاره في مفردات سينمائية محددة، لذا فقد اختار المهرجان مئة فيلم تمثل ستاً وأربعين دولة الامر الذي قد يسهم في استيعاب هذه التيمة السينمائية شديدة الحساسية. ووفرت ادارة المهرجان امكان مشاهدة افلام هذا القسم للعامة ومجاناً خلال فترة المهرجان. وليس غريباً أن تحظى بلدان مثل طاجكستان واوزبكستان ومعهما بلدان من اوروبا الشرقية مثل اوكرانيا وليتونيا بالنصيب الاكبر من هذا القسم، وبلدان ما زالت حقوق الانسان فيها هي القضية الاولى مثل افغانستان، وبلاد عربية اخرى كالعراق الذي شارك بستة افلام ثلاثة منها من انتاج مشترك مع لبنان. وشارك لبنان اضافة الى ذلك بفيلمين آخرين، وفلسطين بسبعة افلام، وحضر كل من اليمن والسودان والجزائر بفيلم واحد لكل منها، الا ان الغريب هو الحضور الاسرائيلي في هذا القسم "حقوق الانسان" بسبعة افلام حمل احدها اسم "متفجرات حية" للمخرج إلان زيف ومن انتاج فرنسي - ألماني- اسرائيلي مشترك. حضور عربي آخر تمثل في قسم سينما الحاضر الذي اتاح الفرصة لشباب السينما من شتى انحاء العالم تقديم اعمالهم السينمائية، حتى وإن كانت الاولى التي اعتمدوا فيها التقنية الحديثة، وجمعوا فيها بين استخدام الفيديو والديجيتال، وجاء من بينها واحد وستون عملاً تمثل اثني عشر بلداً، منها لبنان بفيلم "رماد" من انتاج مشترك مع فرنسا للمخرج خليل جورجي، الذي علق عليه احد النقاد قائلاً: "مأتم طويل وقاتم من دون حوار، لكننا على الاقل شاهدنا شيئاً عربياً". شيء اخير يحسب لمهرجان لوكارنو في هذا العام وهو اتاحته الفرصة للشباب، ليس لتقديم اعمالهم الفنية فقط، بل والمشاركة في لجان التحكيم ايضاً كدماء جديدة وواعدة، كان في مقدمها الكاتب الايطالي الشاب نيكولو امانيتي عضو لجنة تحكيم المسابقة الرسمية، وشباب آخرين في اقسام الفيديو وقسم سينما الحاضر، ومن مصر جاءت نهاد ابراهيم الناقدة السينمائية وعضو لجنة تحكيم النقاد، تلك اللجنة التي تمثل الاتحاد الدولي للنقاد في مهرجان لوكارنو هذا العام بخمسة نقاد من بريطانيا وسويسرا وكندا واليونان ومصر. وتقوم مهمة هذه اللجنة على ترشيح احد افلام المسابقة الرسمية للفوز بجائزة المهرجان.