الدورة ال54 ل"مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي" التي ستختتم بعد غد الأحد بحفلة توزيع جوائز "الباردو الذهب" في الساحة الكبرى للمدينة الواقعة في الكانتون الإيطالي في سويسرا، ستدخل تاريخ السينما... ليس فقط لأنها الأولى لهذا المهرجان العريق في مطلع الألفية الثالثة، أو لأنها آلت بإدارتها الى المديرة الجديدة أو المدير كما يحلو لها، الناقدة في جريدة "لا ريبوبليكا" اليومية الواسعة الانتشار ايريني بينياردي، بل لأنها انطلقت بتحد كبير تواجهه السينما في هذه الشهور، هو ثورة التقنيات الرقمية "الديجيتال". ولتأكيد هذا التحدي و"خطورته" على مستقبل السينما، والآفاق الواسعة التي يطلق لها العنان، انطلقت الدورة بفيلم "الفانتازيا الأخير" للياباني هيرونوبو ساكاغوتشي، الذي دخل عالم السينما ب"عنف" التجديد الكومبيوتري، موقظاً السينمائيين الذين هلّلوا، عن حق، لدخول التقنيات الرقمية عالم الإنتاج السينمائي وتحويله هذا الإنتاج وضعاً "ديموقراطياً" يتيح لمستخدمي كاميرات الديجيتال الخفيفة القدرة على التحرر من "ربقة" الإنتاج الضخم والكلفة العالية ومن دون التضحية بشاعرية العمل. ثورة يابانية... اميركية ثورة "الديجيتال" الآتية من اليابان "عبر انتاج اميركي" تمسّ عبر فيلم "الفانتازيا الأخيرة" الإبداع السينمائي في الصميم، ب"إلغاء" اهم عنصر في العمل السينمائي، أي "الممثل" الإنسان، من خلال "اختلاق" دقيق التفاصيل ل"ممثلين رقميين" يتحركون على المشهد من دون اي اختلاف عن الممثل العادي. ويثير بعض هذه الشخصيات - كما هي الحال مع الشخصية الرئيسة العالمة آكي - الرغبة لدى المشاهد في السعي إلى التعرف بها وضمها إلى مجموعة "الأصدقاء المقربين". أنتج هذا كله اضطراباً في عالم السينما "الطبيعية" ولدى نجوم هوليوود، ما ادى الى مسارعة من منجزي الفيلم الى طمأنة نجوم كبار، مثل توم هانكس الذي يقود حملة قوية ضد هذا الاتجاه، إلى أنهم لا يرون في هذا الاستخدام "طريقة للتخلص من الممثلين البشر"، وهم يصفون ما توصلوا إليه بأنه "مرحلة من مراحل التطور في السينما، بالضبط كما حصل عندما انتقلت من السينما الصامتة الى الناطقة، ومن الأبيض والأسود الى السينما الملوّنة". وبصرف النظر عن هذه الحال، والسجال الدائر بين مؤيدي دخول "الديجيتال" ومعارضيه، الى مرحلة "استنباط" الممثلين، فإن مهرجاناً كان على مدى نصف قرن ورشة عمل حية وناشطة لتجارب السينما في العالم، لم يكن له ان يضيّع على نفسه الفرصة في استباق المهرجانات الأخرى لطرح هذا التحدي الكبير بتقديم هذا العمل وإثارة السجال والنقاش من حوله ومن حول آفاق تطوّره، بعدما قدم العام الماضي فيلم "الرجل الخفي" للهولندي بول فيرهويفن "ومنحه جائزة الباردو الذهب للأعمال السينمائية"، وهو الفيلم الذي استخدم تقنيات الكومبيوتر في إخفاء الشخصية. وشخصيات تعيش الواقع على أن هم هذه التظاهرة السينمائية ومديرتها ايريني بينياروي لم يكن إثارة السجال والنقاش ودق نواقيس الخطر الآتي من الديجيتال فقط، إذ سعى المهرجان ايضاً الى تقديم تجارب سينمائية عالمية مهمة جاءت من اصقاع العالم المتعددة. وعلى رغم أن المشاركة الأميركية هي الأوسع على الإطلاق 68 عملاً روائياً وقصيراً، فإن المشاركات التي جاءت من البلاد والبقاع "القصيّة" أثارت النقاش الأكثر اهتماماً وجدية. وحتى العمل الأميركي الوارد ضمن برنامج المسابقة الرسمية وهو فيلم "الولد الطفل" للمخرج الأسود جون سيلنغتون، ينتمي الى تلك السينما المرتبطة بعالم قد يكون موجوداً في مدينة كبيرة مثل لوس انجليس، لكنه يبدو كأنه يعيش عند الحدود القصوى للعالم، لذا فان الحلول والمخارج والنهايات لا يمكن إلا ان تكون هي الأخرى بدورها في "اقصى الحدود". انه تقليد "لوكارني" راسخ ان يهتم المهرجان ب"ضواحي" المجتمعات، وتأتي أفلام المسابقة الرسمية لتأكيد هذا التقليد "الانتماء"، إذ أن القصص التي ترويها هذه الأفلام إما انها تدور في مناطق الحدود، كما هي الحال مع فيلم الإيراني ابو الفضل جليلي "دلباران" الذي يروي مأساة صبي أفغاني تضطره الحاجة الى ان يعيش بين منطقتي "حياد" إحداهما جغرافية عند الحدود الايرانية - الافغانية في منطقة "دلباران" - أو منزل العشاق على ما يقول المخرج - والثانية معنوية ذات صلة بحياة الصبي نفسه. فهو الذي صار رجلاً قبل أن تكتمل مراهقته، يعيش في عالم الكبار والشيوخ ويعمل معهم، يساومهم، يغالطهم، يسرق منهم وينوب عنهم عندما تفاجئ المنية أحدهم. الحدود نفسها ومنطقة "الحياد" يعيش فيها الشاب العشريني الأسود "جود" بطل فيلم "الولد الطفل". ف"جود" الضخم الجسد والأب لطفلين من امرأتين مختلفتين لم يبرح حياة الطفولة، فهو ابن امرأة تكبره بست عشرة سنة وكبر في كنفها من دون ان يتمكن من الخلاص من التبعية "السلبية" لمنزل الأم. المأساة وحدها والدم المسفوح هما اللذان يتيحان لهذا "الرجل - الأب الطفل" ان يتحرر من عالم الطفولة، ولكن من دون أن نعلم، كما تعمّد المخرج، هل انتمى الى عالم البالغين - الرجال. واقع آخر و"حدود" في أقصى القسوة الاجتماعية تعرضه المخرجة البرازيلية لايس بودانسكي في "تنين بسبعة رؤوس". وتقدم فيه أكثر من إشكالية تنطلق جميعاً من "القهر الاجتماعي" و"انعدام الحوار بين الاجيال" و"رغبة القديم في مقارعة الجديد الوافد". وتعرض لايس بودانسكي في هذا الفيلم صورة مأسوية لمؤسستين برازيليتين "ويمكن ان تكونا نموذجاً لأماكن عدة من العالم"، هما: "مراكز مكافحة إدمان المخدرات" و"مستشفيات الامراض العقلية"، وهما المكانان اللذان "على اقصى حدود اي مجتمع" ويمر عبرهما الشاب "نينو" الذي يجعله قدره الأعسر يقع في براثن الشرطة ليلاً، فيما هو يمارس هوايته المفضلة، اي الكتابة بالصبغ على الجدران. فبعد ليلة يمضيها نينو" في مخفر الشرطة، يكتشف والده انه "دخّن" بعض المخدرات فينتابه الهلع ويجبر ابنه على الانضمام الى مركز للعلاج من الادمان. وتصبح هذه التجربة القصيرة الواسطة المأسوية التي تغرق "نينو" في العالم الأسود للادمان والانهيار العقلي في ما بعد. شريط "تنين بسبعة رؤوس" يشير الى ميلاد مخرجة مبدعة ويعيد السينما البرازيلية، بعد غياب سنين عدة منذ "محطة البرازيل المركزية" الى واجهة المهرجانات والاهتمام النقدي من خلال فيلم صنع في شكل جيد ومبدع يضيف الى اكتشافات المنتج الايطالي "مدير مهرجان لوكارنو السابق" ماركو موللر صوتاً جديداً، قد يسجل في هذه الدورة من المهرجان المقام في لوكارنو الخطوة الأولى في طريق العالمية، بتحقيقه احدى جوائز المهرجان.