يجتاز الشاعرالسعودي أحمد الواصل مداراً من المدارات التي ألفتها بعض الكتابات الشعرية الجديدة، عندما تلتحم اللحظة الشعرية باللغة جاعلة منها فعلاً مجرباً ينتمي الى الزمن الحاضر. وعلى العكس مما درج في العقد الأخير من ظهور للتذكر والاسترجاع، على خلفية من النوع الذي يشي بتنازلات أرغمت الذات الشعرية على قبولها لما مثلته من ارتباط بين الواقع والفكرة، أو بين الأنا والآخر. هذا الاجتياز عبّر عنه في كتابه "هشيم" الصادر حديثاً عن دار النهار للنشر - 2003. ولو أردنا الافادة من عنوان الكتاب "هشيم"، لفهمنا هذا التكسر والتجزؤ على أنه تقطيع وإعادة مونتاج للحدث الفعلي. "هشيم" لا تصبح ذات دلالة نفسية بقدر ما توحي بأسلوبية ما تحقق للشاعر مسألتين، الأولى تتمثل في توفير إمكان "شرعي" لتقطيع الأسطر. والثانية تسمح له بالتنقل كيفما يشاء من موضوع الى آخر، من نظام الى آخر. المسألة الأولى على درجة كبيرة من الأهمية، مسألة التقطيع، فهي ما زالت مدار جدل يجب أن يؤدي الى تلمس معيارية ما لقصيدة النثر. أما المسألة الثانية، التعبير، فتتأتى أهميتها من كون الاجماع بين أوساط القراء والنقاد منذ بدء تدوين الشعر العربي الى الآن، على أن القيمة الشعرية تتأتى من الغطاء أو الفبركة، وهي المبرر في الدراما، والسياق في الشعر، ليصبح موضوع الجمال الشعري مستوى تقنياً في المقام الأول. التشطير أو التقطيع ظهر في الشعر العربي في شكلين اثنين، لا أكثر. إما أن يكون مقسوماً الى اثنين، كما هو متداول، وإما أن يلتحم الشطران لاعتبارات تتعلق بالتفعيلة، والأقل استخداماً، الا انه موجود. ثم ظهرت التفعيلة لكنها لم تحسم تقطيع الأسطر بل تقيدت بشروط بنات البحر. في قصيدة النثر بقي الأمر مثار جدل، إذ لم يعد للتقطيع أي معيارية ممكنة، فلكل قصيدة تقطيعها الخاص. وإن حمل هذا الأمر مغزى يتعلق بالتحديث وحرية الكتابة، الا انه ساهم بعض الشيء في تعميق الاستفهام حول ماهية المعيار الشكلي وقوانينه. وترك الحبل على غاربه في الكتابة النثرية والذي نتلمس نتائجه في الكتابات الأخيرة. أحمد الواصل استجاب في "هشيم" لضرورة التنامي والتمهيد اللذين يكفلان، مبدئياً، معيارية ما للنص. في القصيدة التي يفتتح بها هذه الجملة: "يصحو ليجرجرني الى قصيدة"، نجد أن التمهيد فيها أسس للتتابع والتنامي وإن كان مقتصراً على تطورات محددة. فيأتي المقطع الثاني مبرراً، إذ يقول: "من شفتيه يتدلى الكلام" ثم "ليته يصحو كل قلب لحظة" مروراً ب"أنسام معرشة التوق مرسلة" حتى يصل الى المقطع "فليشربني كأنه ثوب" منتهياً بما يمسك كل تناميات القصيدة "لا ينام". جاء افتتاح القصيدة بوصف الغائب صاحياً، فاعلاً ضمنياً مضمراً. وتنتهي بمنحه الصفة التي تبرر فاعليته المضمرة، وهي حال اليقظة. بين الافتتاح والانتهاء جاء تقطيع الأسطر معتمداً روح المدلول الغائب، فظهرت السطور وكأنها، في كل مرة، تبدأ في مدلول جديد. وهو ما يعزز غزارة التمهيد الذي بقي تمهيداً، وليتحول التنامي الى أثر متخيل في القراءة. هذا وعبرت السطور عن مواصفات المعيارية الممكنة من حيث انتهاء مدلولها مع نهاية النطق بها. وإن أدت تلك الآلية الى الاقتضاب الزائد في التنامي، كما حصل معه، فإنها تمنح القصيدة طابعاً ما بالتماسك، إضافة الى الموضوع الأساس حول الشكل في الكتابة ذات الطابع النثري. في قصيدة أخرى نقرأ قيمة التمهيد الذي سمح للتنامي بأن يكون طبيعياً، وكذلك التأثير في التقطيع لجهة انتهاء المدلول مع انتهاء النطق بالدال، حيث تبدأ القصيدة في الجملة التي تختزن معطيات التنامي الممكنة: "تذكارٌ شكسبيري يتحراني" وفي تجربة بسيطة لقراءة الجملة نجد انتهاء المدلول بالكامل مع نهاية النطق، حتى ان في امكان القراءة اعتبار أن القصيدة انتهت! لكن هذا ليس أكثر من تضمن عالي التكثيف للتنامي، إذ يجب "تشغيل" هذه الكثافة وإخراجها من القبض الى البسط. فنقرأ: "لا الأنا معي" و"غيمة الشتاء لعشاق صامتين" حيث تتدرج صور الذات في ارتهان للتذكار الشكسبيري الأول، وفي تضمن للمدلول الممكن أن تخرجه القصيدة الى العلن. لكن في هذه القصيدة لم يظهر التقطيع معتمداً على انتهاء المدلول والنطق بل خضع لنوع من الاستجابة الى الوهن الذي يفترضه، ربما، التحري الشكسبيري. لكن الواصل لا يلبث أن يعاود الربط بين النطق والتقطيع في القصيدة التي يفتتحها بالجملة الطويلة: "تهيج شقوق شفتيه برسالات لم تصلها ملائكة" لنقرأ التتابع المتماسك الناتج من تمهيد: "لتودعها حارس نية يتهيأ بشارة العالم". ثم تسمح مجموعة المدلولات الممكنة بافتتاح يبدو جديداً، الا انه من جوهر التمهيد: "تأفل قبلة المهتاج" لينتهي في إعلان ما أضمره وبسط ما قبضه: "صوت الخرافة يعوق النشيد". في البداية أشرنا الى نوع التقطيع الذي يسمح بعرض التفاصيل والموضوعات في حرية ما يؤمنها "مونتاج" ذاتي، يجعل من التنقل بين صورة وأخرى إمكاناً مبرراً، لأن هذا التجزيء منطلق من اعتبار صار تقنياً بعد أن كان طريقة نظر الى الأشياء. فبما أن العالم لا يربطه ببعضه بعضاً سوى منظور الذات التي "جرجرها" الغائب الى القصيدة، هذا الغائب وإن كان "لا ينام" الا انه مرتبط بالحلم والتداعي المتفلت من أي منظومة منطقية. مثل هذا نقرأ في قصيدة "مني وإليك" حيث يتحد مستويان لا يجتمعان في العادة: مستوى تعبير جسدي ينتمي الى المتكلم الحاضر، العصري، ومستوى تاريخي بعيد يمتاز بالبرودة التي تتناقض مع دفء الذات. في قصيدة "تحولات" نتلمس شيئاً من السخط البودليري الذي يحمل ثورة في وجه غائب فاعل ربما هو الغائب الذي تريد قصيدة الواصل جعله حاضراً مجرباً، ربما في النوم فقط لأنه في الأساس غير قابل للبرهنة والاثبات، والاشارة تكفي!! بين مستوى التعبير الكيفي، بصفته شعراً، في طبيعة الحال، ومستوى من الشكل الفني الذي أشرنا اليه في التقطيع، تتأكد موهبة الواصل في سعيها الى غير المكرس وغير المفكر فيه، سواء في التناقض مع السردية والحكاية، أو في خصوصية التعبير ومزايا التنامي. تبقى لهذه الشعرية مرونة منتظرة تجعل من العلاقات بين التمهيد والتنامي أكثر تلقائية وليس فقط في إطار من المنطوق الذي يحقق التقطيع الطبيعي، إلا انه يسبغ على النص أثراً ما بالاشتغال والتقصد، التدخل والمراقبة.