حتى وفاته كان يحلم بمقاضاة المجرم ولم يكن بعيداً ذلك اليوم، يفصلنا عنه عقدٌ فقط. فقد عرضت الشبكة الرابعة الإيطالية فيلم "اماركورد" لفيدريكو فيلليني كاملاً من دون تقطيع اوصاله بالإعلانات التلفزيونية التي كانت تثير "قرف" المخرج الكبير في حياته العاصفة، والحافلة، بأفلام كان هو نفسه يقف على عتباتها محارباً عنيداً ضد سيادة المنتج على حياة الناس. صحيح انه لم يكن بعيداً، ولكنه جاء مفاجئاً، فصاحب الشبكة الرابعة هو سيلفيو برلوسكوني، الذي ملأ الحياة الإيطالية بثرثرات من مختلف الأنواع والقياسات والحجوم، حتى بدت ايطاليا تلفزيونياً على الأقل قرية وهي المشهود لها بثقافة اهل الجنوب العريقة، وهي الثقافة ذاتها التي طالما فاخر بها الإيطاليون "المخذولون" الآن اكثر من كل الشعوب الأوروبية فيما يتسلم قيادها برلوسكوني بصفته رئيساً للاتحاد الأوروبي الكبير. لقد سلم هؤلاء المخذولون منذ فترة لا بأس بها بآخر افراسهم السينمائية الرابحة الى هوليوود، وكأنها هي ذاتها لا تشبع من قامة برناردو برتولوتشي العالية فلا يكفيها ايضاً ذلك الموهوب المبشر جوزيبي تورانتوري، الذي ضلّ طريقه حتماً في اروقة ميراماكس وهو يستحضر مالينا او مونيكا بيللوتشي العارضة الفاتنة في عجّة ايطالية لا معنى لها، ذلك ان سينما باراديزو كان اصبح حرف العلة في مسيرة هذا المبشر يوماً ما. حقاً... لم يكن بعيداً ذلك اليوم، فحتى وفاته كان فيدريكو فيلليني يحلم بمقاضاة برلوسكوني شخصياً، لا لأنه يعرض افلامه في محطاته التلفزيونية الرابحة، فهذا شأن عالم اتصالي لا طاقة حتى لفيلليني على تفكيك اوصاله، او الطعن بشرعيته، فهو يستمد شرعيته من وسيلة تفوق غنى البشر جنوباً وشمالاً، طالما هم يتحولون في بضع ثوان هي قيمة المنتج السحرية الى كثبان وفؤول غامضة في عالم ينكفئ الناس إليه لمطالعة حظوظهم في العيش والتمني... والاستكانة على طرق الكهرباء الإلكترونية التي تغذي سيادة المنتج عليهم. لم يعد "اماركورد" مجرد لوحة إعلانية على الأوتوسترادات، او في ذكرياتنا المبكرة عن سينما الأحلام. ولم يعد مجرد تحفة فنية عن مربيات البندورة وأقفية الأطفال الناعمة الملمس، وأنواع الكوتكس المختلفة... لا ... لم يعد كذلك، ولكن فيدريكو فيلليني مات منذ عقد وهو الذي قضى عمره يشحذ همته لمقاضاة الممل برلوسكوني، وهو لم يعد يطالب من قبره بمقاضاته بصفته قاطع طريق ومجرماً محتملاً... لا لم يعد هناك فيلليني في هذا الخلاء. فهل حقاً يعرض "أماركورد" من دون سيادة المنتج؟ هل حقاً يحدث هذا في الشبكة الرابعة؟ ومن هو المنتصر في مثل هذه الحال الغامضة؟! فيلليني الحي ام برلوسكوني الميت؟!