كثر هم الذين يشككون بقدرة الكاتب المبدع على تطبيق مقولة المفكر اللبناني الكبير عمر فاخوري حول ضرورة أن تكون حياة الأديب اليومية مرآة لأدبه. فالمقولات النظرية ذات طابع مثالي مجرد، لكنها نادراً ما وجدت طريقها الى التنفيذ بسبب تخلف البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الوطن العربي، ونزوع الزعامة التسلطية العربية للسيطرة والتفرد بالقرار، وتهميش الجماعة، سواء داخل مؤسسات الدولة أو في صفوف الأحزاب السياسية والنقابات والمنظمات الجماهيرية. وهذا ما دفع المفكر كمال جنبلاط إلى توصيف مأزق الإصلاح السياسي في لبنان، والذي ينطبق إلى حد بعيد على جميع الأنظمة العربية، بأنه ناجم عن "أزمة المعارضة والموالاة معاً". وإذا كانت مقولة الجمع بين النظرية والممارسة العملية لا تنطبق على الغالبية الساحقة من الأدباء والشعراء والمفكرين العرب، فإن من عرف قسطنطين زريق عن كثب تولدت لديه قناعة راسخة بأن حياته كانت مرآة صادقة لفكره. فجاء كتاب عزيز العظمة الجديد: "قسطنطين زريق عربي للقرن العشرين"، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، أيار مايو 2003، ليقدم الأدلة الحسية المدعمة بالوثائق، على فرادة هذا المثقف الكبير. لكن العنوان يثير بعض الالتباس المعلن. فهل المقصود بأن زريق هو "عربي للقرن العشرين" فقط؟ أي أن دوره الريادي لا يتعدى سنوات حياته، كما أن مقولاته النظرية لا تتعدى القرن العشرين ولا تجد صدى لها في القرن الحالي؟ يقدم الكتاب مادة مهمة جداً لسيرة مثقف عربي قلَّ نظيره في القرن العشرين. وهو يظهر الوثائق الدامغة التي تؤكد أن إرادة زريق لا تنبع من ثقافته الموسوعية فحسب، ولا من المناصب الأكاديمية المرموقة التي شغلها عربياً وعالمياً، بل من قدرته الإبداعية على الجمع بين إنتاج المقولات النظرية والعمل على تطبيق ما يمكن تطبيقه منها. فقد توزعت نشاطاته العملية ما بين دمشقوبيروت وشيكاغو ونيويورك وبرنستون، إضافة إلى فترات قصيرة أمضاها أستاذاً زائراً أو محاضراً في كثير من العواصم العربية والعالمية. وتوزعت أعماله الثقافية حول الموضوعات الآتية: الأخلاق والتربية، والعقيدة القومية العربية. وتضمنت كتبه موضوعات عدة أبرزها ما ورد في "الكتاب الأحمر" الذي اعتبر بمثابة دستور ناظم لمبادئ العقيدة القومية، والقومية في معركة الحضارة، ومطالب صناعة التاريخ. لا يتسع المجال للدخول في تفاصيل الأعمال الجليلة التي أنجزها زريق طوال عمر مديد تجاوز التسعين عاماً، لأن الكتاب نفسه يقدم مادة وثائقية شبه متكاملة في هذا المجال بعد أن فتحت أمامه جميع وثائقه الشخصية نظراً للثقة غير المحدودة بالكاتب. فأبحاث العظمة العلمية المتميزة، وتقديره العميق لهذا المفكر العربي المتميز جعلا من كتابه هذا مصدراً لا غنى عنه لكل من يسعى إلى معرفة قسطنطين زريق، في حياته العملية وفي إنتاجه النظري. إستوقفنا في هذا الكتاب الفصل الخامس أو الأخير الذي حمل العنوان الآتي: "الراهن من قسطنطين زريق: خلاصات تحليلية وتركيبية". وقد بدأه العظمة بالعبارة الآتية: "ما الذي يتبقى لنا اليوم، في أوائل القرن الحادي والعشرين، من قسطنطين زريق؟ لا شك في أنه يتبقى لنا القدوة الشخصية، الداخلة من دون وجل في خضم القرن العشرين العربي بتياراته واتجاهاته، وبوعده وخيباته وآماله وإحباطاته وتوتراته، وسبل تجاوز هذه المرجعيات. ويتبقى لنا ذكرى احداث هذا القرن كما عاشتها هذه الشخصية القدوة وتمثلتها بتنبه حيوي ملؤه الأمانة والحرص والانضباط والإحساس بالمسؤولية العامة وتغليبها على الشأن الخاص. ويتبقى لنا حصيلة فكرية". صفحة 185. ويستدل من هذه الإشارة أن زريق كان شخصية قدوة لمن يريد التعلم من دروس التاريخ ومآثر الشخصيات الفاعلة فيه، انسجاماً مع مقولة إبن خلدون أن التاريخ هو "ديوان العبر"، ومقولة هيغل عن الدروس المستقاة من فلسفة التاريخ. فمن عرف زريق عن كثب تولدت لديه قناعة بأهمية هذه الشخصية القدوة والفريدة بين مثقفي العرب في زمن بروز زعامة كاريزماتية عربية تفتقر إلى الثقافة والشفافية وحسن الخلق. وعندما يتساءل العظمة عن موقع زريق في الفكر القومي العربي بصفة عامة، وعما يمكن أن نستبقي منه في سياق الحاضر، وربما في سياق المستقبل، يصل إلى الاستنتاج الآتي: "علينا هنا أن نقوم بعملية اختبار وتركيز وتشديد لنستصلح بعض جوانب فكر زريق في تناول ما يدهمنا من تيارات، ونجعله بذلك في نصاب من الراهنية، ولو تمت تلك المعاصرة على نحو مغاير لما قاله زريق عن استصلاح التراث". ثم يكرر عبارة: "ونحن في معرض استصلاح فكر زريق والكلام على راهنيته"، والبحث عن "تجاوز التواتر بين الرومانسية والتاريخانية في فكر زريق"، و"تجاوز النظرة إلى القومية العربية بالاستناد إلى مفهوم الهوية لديه"، ليصل إلى بعض المقولات النظرية المهمة، ومنها: - الحاجة إلى تسليط الأضواء من جديد على فكر زريق في القومية العربية والعلاقة بين الانتماء القومي والدين. - ان القوميين العرب في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين الذين يتحدر منهم زريق وآخرون، كانوا الوارثين الشرعيين للنزعة القومية المدنية التي حملتها الإصلاحية العثمانية والتي توجت بحركة أتاتورك. وأن فكرة القومية العربية ليست حصيلة نقل أو استعارة ثقافية، وإنما هي مولود محلي مرتبط بالبنى الجديدة وبالأنساق الثقافية الجديدة بقدر ما هو متصل بالأنتلجنسيا التي كانت أبرز نتاج السياسات الثقافية لفترة التنظيمات وما بعدها. - ان فكر زريق يقيم دوماً صلة مباشرة بين المهمة السياسية والمهمة المعرفية. وأن الحس الواعي يزداد عند زريق المؤرخ في استباقه الدراسات العامة عن القومية. وهو جازم في اعتقاده بأن الأمم ليست سابقة على القومية، وأن التكون القومي مسار زمني في الإطار التاريخي الشامل، ينتج الأمم بعامة، مثلما هو جازم في اعتقاده بأن مسار البناء القومي عند العرب لا يزال جنينياً، وأن هذا المسار تطوري وتراكمي ويعتمد في تقدمه على طبيعة السياسات القومية المعتمدة. - ان المسارات التاريخية الرئيسة إنما هي مسارات تتم في التاريخ لا خارجه وتتكئ على النشاط البشري الفاعل في شروط تاريخية محددة. فالتاريخ ليس مساراً حتمياً صادراً عن نظام طبيعي يحرك هويات "أولية"، وإنما هو جزء من عملية تمدن زمنية تراكمية تتخذ في عصرنا الحاضر شكل التكون القومي المدني. وهنا ينجدل التقدم والتحرر والحضارة بعضها ببعض. - ان تحقيق التحويل التاريخي يتم من خلال الانتقال من التاريخ العبء إلى التاريخ الحافز. وهذا تمييز حاسم في فكر زريق. فالتاريخ العبء هو قوة سحر وفوات تمتص القدرة على الفعل الإيجابي وتحرف الأنظار عن المهمات العملية الواجب تنفيذها. فالماضي يمكن ويجب أن يكون مصدر استلهام، ومع ذلك لا بد من تجاوز الأفكار الرومانسية التي تعتمد على مفهوم الهوية، والأمة الخالدة التي تتعدى التاريخ. - إنطلق زريق من مبدأ أساس هو ضرورة تكوين عقلانية خلقية ترتكز إلى مبادئ الإدارة العلمية للمجتمع بما هي فكرة خلقية وكيان صادر عن تيارات مهيمنة في التاريخ الحديث. ختاماً، لقد آمن زريق بضرورة الترفع عن التاريخ العبء والانتقال من الحاضر إلى استحقاق المستقبل بجدارة. وذلك يتطلب استصلاحاً عميقاً ينتقل بعربي القرن العشرين إلى نسيج القرن الحادي والعشرين، وفي مزيج من المقولات القومية والعقلانية والليبرالية. ولعل أهم ما في الكتاب، لا بل أخطر ما فيه، أن مقولات عزيز العظمة تداخلت مع مقولات قسطنطين زريق حد التطابق بحيث يصعب التمييز في ما بينها. ويبقى تساؤل مشروع: كيف سيتلقى القارئ العربي إشكالية التداخل بين مقولات العظمة وزريق كما وردت في الكتاب؟