تظلّ العلاقة بين الشرق والغرب موضعَ اهتمام كثير من الروائيّين، لا سيّما أولئك الذين يعيشون في الغرب، إذ أنّهم يغدون همزات وصل، ويشكّلون جسورَ تواصُل بين الحضارات والثقافات. يكون التاريخُ المشترك والحاضرُ المَعيش والمستقبلُ المنشود روابطَ متينة في هذه العلاقة الشائكة المتشابكة. وممّن اشتغل على هذه العلاقة في رواياته، البريطانيّ السودانيّ الأصل جمال محجوب الذي وُلد في لندن وتربّى في الخرطوم، ونشر روايات لاقت قبولاً واستحساناً ، وترجمت إلى لغات. من رواياته: «إبحار صانع المطر» 1989، «أجنحة من الغبار» 1994، «في ساعة العلامات» 1996، «الساعي» 1998، «السفر مع الجنّ» 2003.يقدّم جمال محجوب في روايته «السفر مع الجن»، (ترجمة أسعد الحسين، نينوى، دمشق2011)، سيرة مهاجر في أوروبا، يرتحل بين جنباتها، ويسوح في مدنها، يستكشف معه جماليات القارّة وأسرارها. يتّخذ محجوب من بطله ياسين ظاهر نموذجاً لعيّنة من المهاجرين العرب في أوروبا، تمتزج في عروق ياسين دماء الشرق والغرب، فوالده سودانيّ وأمّه إنكليزيّة، وهو يعيش في إنكلترا طفولته وشبابه، لكنّه لا يتناسى الجانب الشرقيّ فيه، كما لا يتبرّأ من أصوله، ما يجعله مختلفاً عن غيره في نظر البعض، وإن كان يتّهَم من قبل آخرين أنّه خائن ثقافيّ تنكّر لثقافته وتراثه وتاريخه، وتلبّس الثقافة الغربيّة بعد أن تشرّبها وغرق فيها. يتزوّج ياسين من امرأة إنكليزيّة؛ إيلين، ينجب منها طفلاً يسمّيه ليو، يعيش معها في الريف الإنكليزيّ بضع سنين، وهو الذي كان يفترض به أن يتخرّج إعلاميّاً كبيراً، بحسب ما كان والده يخطّط له، ولا سيّما أنّ والده مالك صحيفة، وكاتب مرموق يتمتّع بسمعة حسنة، وله مواقف مشهودة، ما كان يتسبّب له في الكثير من الإشكاليّات مع السلطة، لكنّه يظلّ متمسّكاً بقناعاته وآرائه، وكان يحلم أن يكمل ابنه ياسين دربه في الصحافة والحياة. يظلّ ياسين في الريف بضع سنوات، يمارس أعمال الفلاحة والزراعة، تزوره أخته ياسمينة التي تتزوّج من أحد الأثرياء؛ عمر، وهو وريث لشركات ضخمة لها تعاملات مشبوهة مع المتنفّذين والمسؤولين، لكنّه يتبجّح بتمسّكه بقشور التديّن، ويقف عمر مع ياسمينة في موقفها من أخيها، تعاتبه ياسمينة، تندب حظّه وتأسف لضياع مستقبله، وكيف أنّه يبدّد حياته وأحلامه وأحلام أبيه مع إنكليزيّة في الريف، لكنّ ياسين لا يتراجع عن موقفه، ولا يرضخ للضغوطات، ويواظب على وتيرة حياته التي اختارها مع زوجته وابنه، إلا حين يستجدّ أمر معه في سهرة ميلاد عائليّة، إذ تجتمع عائلة إيلين، يلقي كلّ واحد منهم كلمة بالمناسبة، وحين يأتي دور إيلين، تفضح خيانة ياسين لها مع إحدى صديقاتها، ما يتسبّب لها بأذى كبير، وتبوح بنيّتها في الطلاق منه، حينذاك، تتهاوى آخر قلاعه، فيقرّر في لحظة ارتجاليّة أن يأخذ ابنه ليو في رحلة استكشافيّة ويجول به في أرجاء أوروبا. بعد موافقة إيلين، يغادر بسيارته القديمة، مبيّتاً السفر إلى أخيه، لكنّه يعرّج على مدن وعواصم قبل ذلك، يتعرّف فيها إلى أناس جدد، يعرّف ابنه إلى كثير من التفاصيل التاريخيّة والجغرافيّة والفنّيّة، يتحدّث له عن طبيعة المدن التي يمرّ بها، يحاول أن يسبر معه أغوار التاريخ، ويتسلّل إلى مسارب الجغرافيا. يبحث عن جوهر لوجوده وبقائه، وحافز لتهيئة ابنه للحياة القادمة، بخاصّة بعد أن يفقد كثيراً من الأشخاص والأشياء ، يقول: «ليس لديّ أفريقيا خاصّة بي لأهرب إليها حين تفسد حياتي. أوروبا هي قارتي السوداء وأنا أبحث عن قلبها». يقع لياسين وليو كثير من الأحداث والمواقف، تشكّل بعضها منعطفات تغيّر مسار الرحلة، يزوران المتاحف، يحدّث ياسين ابنه عن الكثير من الشخصيّات التي أثّرت في تاريخ المنطقة والعالم، يوظّف المعارف والعلوم في سبيل تعريف ابنه بالتأثيرات المتبادلة بين الشرق والغرب في مختلف المجالات. يستكمل رحلته التي تتشعّب، يسعى إلى الوصول إلى أخيه ميوك الذي يقيم في بلدة منعزلة في إسبانيا، والذي يخرج من السجن إثر أفعال غير قانونيّة كان يرتكبها. يصل إليه بعد حادث يكاد يودي به وبليو معاً، وبعد ذلك يقيم معه فترة، يتبادلان خلالها العتابات، يتذكّران معاً الأحلام التي كان والدهما يحلم بها لهما، وبخاصّة لياسين الذي يصرّ ميوك على القول بأنّه خذل أباه، حين فشل في أن يحقّق أحلامه. ويكون التناجي الضمنيّ وسيلة للتواصل، إذ يتذكّر ياسين مراحل حياته منذ الطفولة وحتّى تلك اللحظة، ويحلم بمستقبل مختلف لابنه ليو، الذي يريد له أن يكون نموذجاً للمواطن العالميّ الذي يغتني بهويّاته المتعدّدة التي تثري كيانه وتبلور كينونته، وتبقيه قريباً من الكلّ ومندمجاً في محيطه، وذلك لتعدّد الروابط المشتركة. يحاول محجوب تدوين الثقافة الشفاهيّة التي تعمّ في قارّته أفريقيا، حيث يروج مثل يقول: «حين يموت شخص تتلاشى مكتبة للأبد». لذلك فإنّه يحرص على تدوين الحكايات التي يتمّ تناقلها مشافهة، كما يصوّر الطقوس والعادات التي تعمّ في مناطق نائية من القارّة الأفريقيّة، ويستغرق أحياناً في الحديث عن بعض الشخصيّات التاريخيّة، كأنّه بصدد تقديم سيَر لها تتخلّل سيرة بطله، يرد ذلك على لسان ياسين وهو يتحدّث لابنه عنها، مع إدراكه أحياناً أنّ ليو لا يتفهّم المعنى المراد في بعض الأحيان، وهنا يكون السرد موجّهاً إلى القارئ في شكل مباشر، كأنّ الكاتب يأخذ على عاتقه تعريف الغرب بالشخصيّات الشرقيّة الفاعلة والمؤثّرة في تاريخ الغرب ونهضته وثقافته، أو كأنّه يردّ على المركزيّة الأوروبيّة بتمركز مضادّ، حتّى وإن كان ناشئاً في قلب ذاك الغرب نفسه. كما يبدو أحياناً كمن يريد تقديم استعراض ثقافيّ أو دراسات وترسيمات لأبحاث في الأدب المقارن. يسعى محجوب إلى إيجاب استيعاب الصدمة الحضاريّة، وإلى إحلال الحوار المنشود محلّ الصراع المرصود الذي يتفشّى هنا وهناك، وهو إذ يشدّد على دور الفنّ والجمال في محاربة التطرّف والعنف، ينقل حضارته وتاريخه، يقدّمه للآخر في روايته، في شكل منسجم متناغم مع ثقافته ووعيه، كما يتعرّف إلى حضارة الآخر ويتشرّبها، ويعرّف ابنه إليها كي يألفها ويعشقها، لأنّ الإنسان يظلّ عدوّ ما يجهل، من دون أن يغفل عن الأدوار السيّئة التي لعبها الغرب كقوّة استعماريّة في المناطق التي استعمرها. ومن دون أن يبحث عن بؤر انتقاميّة تثير الأحقاد، يقدّم رؤاه حول العلاقة التي تظلّ موضع خلاف واختلاف، ولا تفارقه الحيرة إزاء بعض النقاط، ذلك مع محاولته الحثيثة على إيجاد التوافقات والمشتركات. يتحرّك جمال محجوب تحت عباءة الطيّب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال»، يبرز تناصّه معه، وذلك في أكثر من نقطة، ابتداء من العنوان الذي يحوي فكرة السفر والارتحال، التي تلعب دوراً محوريّاً في رأب الصدوع، وأحياناً في توسيعها أيضاً، مروراً بشخصيّة ياسين ظاهر التي تلتقي مع شخصيّة مصطفى سعيد في كثير من ملامحها وصفاتها وتصرّفاتها، من حيث الدراسة والزواج وبعض الآراء والتقاطعات، منها مثلاً: على التركيز فكرة الغزو إذ يقول ياسين: «السفر وسيلة لغزو العالم..»، وكان مصطفى سعيد يكرّر: «جئتكم غازياً..». وانتهاء بالخاتمة التي يختارها قريبة إلى حدّ ما من خاتمة الطيّب صالح، ولا سيّما في فكرة السباحة في النهر، أو محاولة عبوره، والبقاء في تلك البقعة المائيّة ساعياً إلى العبور، ومرتبطاً إلى الجذور في الوقت نفسه. إلاّ أنّ بطل محجوب يظلّ مهاجراً في قلب القارّة الأوروبيّة، يحتفظ من أبيه ببعض الذكريات، آلة الكاتبة وكتب، ينقلها إليه الموج، وهو بدوره يعاود التدقيق فيها، يستكشف فيه ماضيه وحاضره ومستقبله، ويبيّت نيّة توريثها لابنه الذي يرتحل مع أمّه في رحلة حياته القادمة. وهذا لا يعني أنّ محجوب استنسخ الفكرة أو طوّرها، بل يمكن القول إنّه قدّم وجوهاً أخرى لتلك العلاقة التي تظلّ محفوفة بالكثير من الإشكاليّات بين شمالٍ يجدّد شبابه وجنوب يهمل شبابه.