بعد خمس روايات متتالية هي: «كهوف هايدراهوداهوس»، «ثادريميس»، «موتى مبتدئون»، «السلالم الرملية»، «لوعة الأليف...» التي استنفدت طاقة الروائي والشاعر الكردي السوري سليم يركات في سرد غرائبي ملغز، وأطفأت الفضول في ارتياد فضاءات روائية يصعب تحديد ملامحها، أو فك رموزها وشفراتها المعقدة، يعود بركات، في روايته الأخيرة، «هياج الإوز»، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر - 2010)، الى استكمال معماره الروائي؛ الواضح المعالم والغايات، والذي بدأ مع سيرتيه (الطفولة، والصبا) و «فقهاء الظلام»، و«الريش»، و«معسكرات الأبد»، وثلاثية «الفلكيون في ثلثاء الموت»، و«الاختام والسديم» وغيرها. الروايات الخيالية الخمس، إنْ جاز الوصف، جاءت محطة فاصلة بين بدايات خلّدت، على نحو فاتن، أمكنة الطفولة البعيدة، ودوّنت، بلسان اللوعة، تفاصيل الحياة بكل بهجتها وقسوتها ووحشيتها وبؤسها في الجزيرة السورية. وبين هذه البداية الثانية التي تؤرخ لها «هياج الأوز» التي تتناول ظروف المهاجرين أو المهجّرين الكُرد في أوروبا، وتقتفي مسارات الحنين والغربة، وتتعقب الارتباك المفاجئ إزاء حرية فائضة تفصح عن نفسها، هنا، في صورة إوزات هائجة تبوح برغباتها وجنونها، وحنينها ومحنتها بأكثر المفردات هتكاً؛ عبر اعترافات صاخبة، ساخرة تستكشف أعماقها الأكثر غوراً. نزح بركات، باكراً، عن المكان الأول الذي شهد قنصه المتقن، ومشاكساته وعراكه العنيف مع الطبيعة وكائناتها. كانت دمشق المحطة الأولى التي قادته الى بيروت الحرب الأهلية التي دوّن بعض تفاصيلها في روايته «أرواح هندسية»، وكان مقدراً له أن يخرج من بيروت، مع من خرج من الفلسطينين، مطلع الثمانينات من القرن الماضي، نحو المهاجر البعيدة، والقريبة، فوجد بركات في قبرص ملاذاً جديداً حيث عمل في مجلة «الكرمل»، مع الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، وفي منتصف التسعينات ذهب نحو منفى أبعد، إذ استقر في السويد. هذا الرحيل المبكر لم يفلح في محو الحكايات التي ظلت وشماً على الذاكرة، فراح بركات يقتات منها وعليها، من دون ملل أو تذمر، حتى استقر ذلك «الغمر الساحر»، بحسب تعبيره، الذي يفصل بين قريته «موسيسانا» و«القامشلي» بكل طيوره وكائناته وأساطيره، استقر بين دفتي كتاب. تحولت حقول القمح سطوراً، واستحالت الجداول حبراً لا ينضب، وكأن هجرة المكان أوقدت في روحه حنيناً وشغفاً لا سبيل الى كبحهما سوى بالكتابة التي مالت في السنوات الأخيرة، كما أشرنا، نحو الخيال والفانتازيا، لتعيد «هياج الإوز»، روح الكاتب التائهة، الى سياقها المعروف: أن يروي محنة قومه الكردي، ولكن هذه المرة من ضفاف بعيدة؛ من السويد التي وصلها مهاجرون كثر من العالم الثالث يعيدون «صوغ قواعد موازية، من الداخل، كتسوية تغدو معها أوروبا (شرق الغرب)». قد يشعر بركات بالاستياء إنْ سعى كاتب إلى تأطير أدبه ضمن أفق مغلق كالذي أشرنا إليه، ذلك أن بركات طرح مواضيع مختلفة يصعب حصرها، فضلاً عن أن الملمح الأبرز لتجربته، التي أثمرت نحو خمسة وثلاثين كتاباً بين شعر ونثر، يتمثل في اللغة التي تحولت على يديه أداة تستحوذ على أحاسيس القارئ، وتغمره بفيض من العبارات والصياغات البلاغية المضبوطة والمحكمة، فلا يعود الأمر مهماً إنْ حكى بركات عن وردة ذابلة، أو عن محنة شعب، أو إن وصف درباً ترابياً في القامشلي، أو شارعاً مرتباً ببذخ في استوكهولم التي يتخذ منها بركات مسرحاً لروايته الأخيرة، على أن هذه البلاغة اللغوية الساحرة لا ترنو الى خيال يليق بها فحسب، بل تمضي نحو مآزق الحياة ودهاليزها الممتدة من قرى متهالكة في الجزيرة السورية الى أروقة الحداثة الناضجة في الحواضر الأوروبية. يستهل بركات «هياج الإوز» بتوضيح لافت لم نعتده لدى صاحب «طيش الياقوت»، فهو يقول: «جرى توثيق أقوال الشخصيات، في هذه الرواية، على نحو لا يجعلنا مسؤولين عن أيِّ تحريف، أو اختلاق للوقائع، أو حتى كتمان ما لا يجعل المشهد مكتملاً أحياناً. أسماء الشوارع في العاصمة السويدية وضواحيها، دوّنت كما أُعطيت شفهياً، ولم نحاول نحن، التأكد من وجودها على الخريطة، باعتبارنا غير معنيين بتحقيق لا يتصل بعملنا»، مشيراً إلى أن «الآراء الواردة على ألسنة الشخصيات لا يتحمل تبعتها سواها»، في تلميح الى أن ما تقوله الشخصيات، هو وثائق وشهادات حية تصوغ واقع أوروبا؛ «الامبراطورية الراهنة» التي اضطرت الى تغيير جلدها أمام زحف المهاجرين الذين لطالما تاقوا إلى الحرية والانفتاح والتعددية. وإذ تسنت لهم هذه الآمال، انكفأوا على ذواتهم الهشة؛ الجريحة التي تبحث، الآن، عن هواء آخر يعيد ترتيب فصول الألم: «يحمل المهاجر، في حقيبته، شظية من سمائه المهشّمة، وشظية من أرضه المهشّمة، ليعرضها في كلمات مهشّمة» على مسمع المحققين، المتأهبين لتلقف قصص اللوعة التي دفعت بهؤلاء إلى استعطاف اوروبي لا بديل منه، بعد سلسلة من العذاب والإهانة أوصلتهم، بأعجوبة، إلى أرض الأحلام الجديدة. الشمال القاسي يستعرض بركات في هذه الرواية شجون المهاجرين؛ وهموم اللاجئين إلى «رحمة الشمال القاسي»: السويد. يدوّن انشغالاتهم، ومشكلاتهم، وشؤونهم اليومية، وهواجسهم. يروي قصص الطلاق والزواج وسيرة الأبناء الذين ولدوا، هناك في البعيد، وتمثلوا آداب المكان الجديد وقيمه، فحدث الشرخ المتوقع بين الأجيال، فثمة من اندمج مع حضارة الغرب بكل قيمها وثقافتها، وثمة من يمتنع عن الرضوخ والاستسلام. يرصد بركات شكاوى مجتمعات المهاجرين الجدد وحاجاتهم وأحلامهم في أحياء استوكهولم عبر عيون عشر نساء تحوم أعمارهن حول الأربعين، يزيد أو ينقص قليلاً، باستثناء صبية في العشرينات، اعتدن أن يجتمعن مساء كل سبت لدى واحدة منهن، فتتحرر الألسنة من كل قيد، وتحرث السهرة «المؤنثة» بأحاديث شتى لا يضبطها عرف أو قانون، ولا تحدّها ضفاف. فالنسوة، كما تؤكد الرواية، متحررات من كل ما يعوق سلاسة السرد، إذ يشرعن في البوح والمكاشفة والاعتراف، من دون أن يتركن شيئاً من قضايا هذا العالم، النافلة والضرورية، إلا ويفردن له حيزاً في سهراتهن التي تؤججها كؤوس النبيذ، وعبق الدخان الذي يرمز الى رفض متعمد لقوانين البلد الجديد. وإزاء هذه الألسنة الشاتمة، البذيئة، الثرثارة، المتمردة، لم يجد بركات أمامه سوى الإشارة الى التنصل من «تبعة ما تقوله الشخصيات»، إذ يكتفي ب «التلصص والتسجيل»، من دون أن يهمل سيرة كل واحدة منهن، فهو يتعقب رحلتهن من مدن بعيدة في سورية وتركيا وكردستان العراق، حتى وصولهن، بعد خيبات كثيرة الى السويد التي باتت، على لسان إحدى الشخصيات «مستعمرة كردية». هي سير وعرة؛ شاقة تبدأ من الارض الأولى حيث الهواء القاسي؛ الجاف الذي يطبع الحياة بطابعها، مروراً بأرصفة المطارات والموانئ والحدود، وصولاً إلى «مسكن المهاجرين الذي تؤمن الدولة شققه لطالبي اللجوء»، وسط انتظار ممض تتخلله تحقيقات عن أسباب اللجوء «دوّخوا، خلالها، سلطات الهجرة باعترافات متناقضة حتى بلغ انتساب الواحد منهم، دفعة واحدة، إلى أماكن جريحة كثيرة... دفعت السويد ثمن ذلك الغموض المحير إقامات سريعة...». لكل مهاجر حكايته الخاصة، ونساء بركات العشر لهن حكاياتهن التي تتوضح ملامحها، فصلاً بعد فصل. تاسو؛ القادمة من قامشلو، التي تتحرق شوقاً إلى تحقيق أمنية تكررها في كل سهرة: «سأغير اسم شارع كاترينا باركن هذا. سأطلق عليه اسم الملا علي خابوت، وليّ القشدة في شتاءات قامشلوكي»، وتحتفظ بسر لن تكشفه صديقاتها، ولن تفصح عنه الرواية، فهي تجمع أطواق الكلاب ومقاودها، وتستحث كائناً على الخروج من علبة كرتون في قبو البناء الموحش، «المقسم مستودعات منطوية على تواريخها كآثار». درخو الشاعرة التي تستمد قصائدها، أبداً، من برهة فاصلة بين الفجر والصباح، وراوت التي قدمت الى السويد من ركن الدين؛ إحدى ضواحي دمشق المطلة من جبل قاسيون الأجرد على غرق الافق. «كانت تتحسر في السويد على مشهد كذاك المشهد الغرق، من الأعالي، في أفق غريق أسفل كل جبل»، وإذ رأت في السويد الاشجار أنّى التفتت، وكيفما حلت، صاحت: «أريد أن أرى عراء؛ أن أدحرج روحي على فراغ أجرد». نازلي، وشيراز، وسلام، وزنتانا، وريحاني، وشتولا، وزليخا... شخصيات الرواية التي وجد فيها بركات ذريعة كي يرسم لوحة تتداخل فيها المصائر، والأقدار، والتواريخ، وتشتبك في فضائها المسرّات، والهزائم، والخيبات، والآمال في سعي إلى العثور على لغة الأرواح التائهة بين الجغرافيا، تلك اللغة المنسوجة، هنا، بخيال الأنثى التي لا تمل من الثرثرة، وكأن هذه النسوة لسن سوى صورة معاصرة لشهرزاد «ألف ليلة وليلة»، التي كانت تستنجد بالقص كي تحمي نفسها من موت محتم. شخصيات بركات النسائية، بدورهن، يخترعن قصصاً لا تنتهي، وكأن استوكهولم «شهريار حداثي» يتربص بهن، إن تأففن، وامتنعن عن سرد الحكايا التي تسيل عذوبة وشوقاً، فهي تأتي من لدن الأنثى ذات الحساسية المفرطة، وإذ نقلها بركات، فإنه حوّلها الى نشيد لغوي مرهف، مثلما هو دأبه في كل أعماله شعراً ونثراً.