بعدما حار النقّاد والقرّاء الأوروبيون والعرب في فكّ لغز تلك الكاتبة الجزائرية الغامضة التي أحدثت جدلاً في الأوساط الثقافية الفرنكوفونية والعالمية، نظراً إلى تناولها موضوع العنف الذي يفتك ببلادها والعالم كلّه. قرّرت ياسمينة خضرا قبل نحو عشر سنوات تقريباً أن توضح حقيقة هويتها وإذا بها تصدم المجتمع الثقافي بأنّ وراء هذا الاسم الأنثوي الجميل يختبئ ضابط عسكري في الجيش الجزائري يُدعى محمد مولسهول. ولم يمرّ اعتراف خضرا مرور الكرام، فهو أثار حفيظة البعض واستغراب البعض الآخر وأصبحت الأسئلة المشكّكة تدور حول الاسم الذي طالما احتُفي به والروايات التي كثيراً ما أُشيدَ بها. وفي مناسبة مشاركته في «صالون الكتاب الفرنكوفوني 2010» في بيروت، التقينا صاحب «الاعتداء» الذي تحدّث عن روايته التي وقعّها في الصالون «أولمب المصائب» وعن نظرته إلى العنف المستفحل في عالمنا ورأيه بالعلاقة الحالية التي تجمع الشرق والغرب وكيفية تصحيحها، فضلاً عن المرأة العربية التي اختار اسمها ليكون حليفه في الحياة وعلى الورق أيضاً... يُعرّفك بعضهم على أنّك «كاتب العنف»... إلى أي مدى يُشبهك هذا التعريف؟ - أنا رجلٌ عرف العنف وعاينه عن كثب من خلال مشاهدات حيّة لأقوى مشاهد العنف. وعندما أكتب عن العنف أعرف أنني أكتب عن حقيقة يعيشها العالم كلّه. لكننّي لا أعتبر أنّ العنف صفة بشرية أو قدَر إنساني، بل إنّها حالة تنتج من شروط معينة، وأنا في كلّ عمل أقدّمه أحاول أن أرسم صورة للعنف ليس من أجل تكريسها طبعاً وإنما لمناهضتها وللتنديد بها. في «الاعتداء» طرحت مسألة شائكة تتلخّص بالعمليات الإنتحارية موضحاً العنف الذي قد ينتج منها، إلاّ أنّ بعض الصحف العربية رأت أنّك تماشيت في ذلك مع الإسرائيليين ولم تُقدّم ما يخدم القضية الفلسطينية التي أردت إنصافها أمام الغرب؟ - هذا غير صحيح، فالعالم العربي كلّه فهم حقيقة المغزى من وراء رواية «الاعتداء» وكذلك العالم الغربي، ولم يأخذها بنيّة سيئة سوى مقال واحد في جريدة «الحياة» ولا أعتقد أنّ الرأي هذا يُمثّل الرأي العام العربي، وأعتقد أن صاحبه لم يقرأ الرواية جيداً وإلاّ لما كان كتب ما كتبه عنها. فأنا في كلّ عمل أقدّمه أسعى بطريقة ما إلى احتضان وجهة النظر العربية والتأكيد أنّ العرب والمسلمين ليسوا مثاراً للخوف والرعب وأنّ وجودهم ليس تهديداً للآخر. كيف تصف العلاقة الراهنة التي تجمع الشرق بالغرب؟ - لا شكّ في أنّ هناك صداماً ناتجاً من صورة خاطئة رسمها الغرب عن «العربي»، وهي صورة أقلّ ما يُقال عنها إنّها كاريكاتورية تتجسّد في رجل بدوي يسير إلى جانب قافلته المؤلّفة من جمال في صحراء لا بداية ولا نهاية لها. وهذه الصورة الخاطئة للأسف مطبوعة في أذهان الغربيين في شكل عام، والعالم العربي لا يزال بالنسبة إليهم غامضاً ومجهولاً وهم لديهم فضول كبير لمعرفة المزيد عنّا، بعيداً من الصور السطحية التي لا تُحاكي الحقيقة الكامنة في عالمنا. من هنا أفضّل أن تخرج الصورة الحقيقية بعدسة الإنسان العربي نفسه الذي يُمكنه رصد صورة بانورامية شاملة من الداخل. لذلك أرى أنّ العالم العربي بحاجة إلى كتّاب من أبنائه ضليعون بلغة الآخر لكي ينجحوا في التوجّه إليه وكسر تلك الصورة الكاريكاتورية النمطية عن العربي ليعرف الآخرون أكثر عن شرقنا الذي هو ليس إلاّ الغرب من الناحية الأخرى. كيف يُمكن أن تتغيّر نظرة الغرب إلى الشرق؟ - بالموهبة والمقدرة والإبداع فقط. فالإبداع هو الذي يجمع الناس ليُصبح هويتهم ولغتهم وثقافتهم المشتركة. وأعتقد أنّ الموسيقى خير دليل على ذلك لأنّها تتوجّه إلى العالم كلّه وتوحّده لتُصبح النغمات هي اللغة الجامعة بين كلّ الناس في كلّ مكان. وأنا لمست ذلك من خلال تجربتي الشخصية إذ أنّ كتبي المترجمة إلى بقية لغات العالم جعلتني كاتباً معروفاً ومقروءاً في اليابان والمكسيك والكثير من دول أوروبا التي لا علاقة لها باللغة أو الثقافة العربية. كيف تستغلّ شهرتك العالمية لتصحيح تلك النظرة الخاطئة عن العالم العربي الإسلامي الذي تنتمي أنت إليه؟ - بالإبداع أولاً... ومن ثمّ العمل على كسر الصورة النمطية الخاطئة عن عالمنا العربي والإسلامي. في ثلاثيتك المعروفة «سنونوات بغداد» و «الاعتداء» و «صفّارات بغداد» تطرّقت إلى الوضع السياسي- الأمني في منطقة الشرق الأوسط. هل لك أن تخبرنا عن المشكلة الحقيقة التي تعيشها المنطقة اليوم؟ - في الماضي كان أصحاب الأهداف الاستعمارية التوسعية يُقسمون العالم كي يحكموا، أمّا اليوم فصاروا يُخوّفون ويُهدّدون ليحكموا. كلّ واحد من المسؤولين والسياسيين والمرشحين يُحاول على طريقته الاستفادة من وجود بعض الأخطار لإيهام شعبه بأنّه المخلّص الجديد للإنسانية. أمّا العامّة فهي مع الأسف غير مُدركة دائماً لحقيقة ما يجري حولها وبالتالي تُصدّق ما تتلقاه وتسمعه. أمّا أنا فأحاول قدر المستطاع في كتاباتي إظهار الصورة العبثية للعنف والتأكيد أنّ وجود المسلم العربي ليس تهديداً لوجود الآخر كما يحاول بعضهم أن يقول. في روايتك الأخيرة «أولمب المصائب»، تناولت حياة الشخصيات المهمّشة بأسلوب تطغى عليه المشاعر الإنسانية أكثر من أي كتاب آخر لك... هل تقصدّت ذلك لإبعاد شبهة «العنف» عن شخصيتك كروائي؟ - لا وإنما لأنني إنسان قبل أي شيء آخر ولأنني أعرف معنى الأحاسيس والمشاعر الإنسانية. وفي هذه الرواية حاولت أن أُعيد إلى الإنسان قيمته كفرد، وبمعنى آخر كروح من خلال تلك الشخصيات المهمّشة في مجتمعاتنا، خصوصاً أننا نعيش اليوم في زمن العولمة التي دمرّت العالم وفرّغت الفرد من قيمته وسمحت للمادّة بأن تصبح سيّدة البشر. هل تعتقد أنّ الكلمة قادرة دائماً على التغيير؟ - طبعاً، ففي الأصل كانت الكلمة... والكلمة هي التي قادت الشعوب على مدار السنين، والخطاب السياسي كان وما زال المحرّك الرئيس في حياة المواطن وفي تحديد توجهاته واختياره لهذا الحزب أو ذاك. يُقدّم «صالون الكتاب الفرنكوفوني» في دورته السابعة عشرة في بيروت تحيّة إلى روح الكاتب ألبير كامو... إلى أي مدى أثّر هذا الكاتب الفرنسي- الجزائري في أدب الجزائري الفرنكوفوني ياسمينة خضرا؟ - لم أتأثّر بكاتب بقدر ما تأثرت بالكاتب الجزائري مالك حدّاد، فأنا أحببت الأدب واللغة بأثر منه أكثر من أي شخص آخر. ولكن هذا لا يلغي إعجابي بأدب ألبير كامو الذي أعتبره من كبار الكتّاب طبعاً. فهو جزائري تحدّث في كتاباته عن بلادي وإنما بلسان «مُستوطن صغير». فأنا لا أجد في روايات كامو الجزائر التي أعرفها وإنما أجد الروح الجزائرية وألمس ذاك الرابط الحسّي القوي الذي يجمعه بهذا البلد الغريب والجميل. على رغم أنّك ناهضت الاستعمار إلاّ أنّك اخترت أن تهجر بلادك وتعيش في بلد المُستعمِر... ألا يُمكن أن يُفسّر ذلك على أنّه تناقض بين قولك وفعلك؟ - ناهضت الاستعمار طبعاً وكنت إلى جانب وطني وثورته وشهدائه ولكن هذا لا يعني الوقوف هنا والعمل على تنديد ذاك التاريخ المضطرب والقاسي. فالتاريخ الذي كُتب لن يُمحى ولن يتغيّر لأنّه فعل أُنجز ومضى، وكلّ ما يمكننا فعله هو الاستفادة من أخطائه لتحقيق الثراء الإنساني. وهذا لا يحصل إلاّ من خلال احترام التعايش بين الشعبين الجزائري والفرنسي الذي بلغ عمره 132 سنة. والفرنسيون اليوم هم الأقرب إلى الجزائريين وهناك الكثير من الكتّاب الذين يعيشون في فرنسا وهذا أمر طبيعي. وأقولها بصراحة إنّ غالبية قرّاء ياسمينة خضرا هم من الفرنسيين، وهذا يدلّ على أنّنا بالموهبة نستطيع دوماً أن نتجاوز أصعب الظروف وأحلكها. أنت ابن الصحراء... ويعود تاريخ وجود قبيلتك في الصحراء الجزائرية إلى ثمانية قرون. ماذا تعني لك الصحراء؟ وهل ما زلت تحمل صفات «البدوي»؟ - بالتأكيد أحمل الكثير من صفات أبناء الصحراء، فهذا أمر يولد في جينات الإنسان ويظلّ معه مدى الحياة. ومن الأشياء التي أحملها وأعتزّ بها هي عشقي للشعر، فقبيلتي معروفة بحبّها للشعر وإنجابها لعدد كبير من الشعراء. لماذا لم تكتب الشعر إذاً؟ - أنا أكتب الشعر ولكن في شكل حصري لزوجتي. فأنا لا أستطيع أن أنظم شعراً إلاّ باللغة العربية، وربما يعود ذلك إلى شغفي بشعر المتنبي وغيره من الشعراء العرب أمثال بشار بن برد وأبي القاسم الشابي والعقّاد. ولكنني كنت دائماً كلّما نظرت إلى شعر هؤلاء أشعر بعجزي عن كتابة الشعر العربي في المستوى الذي أطمح إليه. ولا أستطيع كتابة الشعر بالفرنسية لأنني أعتقد أنّ اللغة العربية هي لغة الشعر والفرنسية لغة الرواية. اختبأت فترة طويلة وراء الاسم المستعار للحفاظ على السريّة والفصل بين الكاتب «ياسمينة خضرا» والضابط في الجيش الجزائري «محمد مولسهول»... أمّا اليوم وبعد أكثر من 9 سنوات على كشف حقيقة هويتك، نجدك محافظاً على اسمك المستعار. لماذا؟ - لأنني أصبحت كاتباً معروفاً بهذا الاسم في أكثر من 40 بلداً، وليس من السهل بعد مجموعة كبيرة من الأعمال الأدبية أن أظهر إلى الناس باسم جديد بعد أن أحبوا الأول واعتادوا عليه. كما أنني أردت أيضاً من وراء ذلك أن أشيد بزوجتي التي أهدتني اسمها «ياسمينة خضرا» وبالتالي الإشادة بكلّ امرأة جزائرية وعربية في هذا العالم. أن يختار الرجل العربي اسم امرأة ليوقّع به نجاحاته وإبداعاته أمر يتطلّب الكثير من الجرأة والقوّة، فإلى أي مدى تُقدّر المرأة؟ وكيف تُعرّفها؟ - المرأة بالنسبة إليّ هي الامتياز والكمال، أمّا الرجل فهو امرأة ناقصة. ما المشكلة الحقيقية التي تُعانيها المرأة في مجتمعاتنا العربية؟ - في الواقع، مشكلة المرأة العربية تكمن في الرجل نفسه. ولا يمكنها أن تتخلّص من العقبات التي تُعرقل حياتها إلاّ عندما يتغيّر الرجل الشرقي نفسه. فالمرأة العربية مُكبّلة بالكثير من القيود وما زالت تُعامَل على أساس أنّها جسد، أمّا الرجل فيعتبر نفسه الوصيّ الطبيعي عليها. وهنا تتربّع المشكلة لأنّ ذلك سيحدّ من انطلاقتها وقدرتها على تكريس قدراتها. لكننّي متأكّد أنّه حين يتخلّى الرجل العربي عن عقليته الذكورية ويُغيّر نظرته وبالتالي أسلوب تعاطيه مع المرأة، ينهض المجتمع العربي والإسلامي ويرتقي إلى أعلى المستويات وسيُذهل العالم كلّه أيضاً. ما هو نمط حياة ياسمينة خضرا اليوم بعد انتقاله من الحياة العسكرية إلى عالم الأدب؟ - نمط حياتي كان وما زال محصوراً بعائلتي، زوجتي وأولادي. أمّا على الصعيد الشخصي فأنا لم أتغيّر أبداً لا كقائد عسكري ولا كأديب معروف. لذا لم أجد أنّ حياتي لم تتبدّل على رغم تبدّل ظروفها، فأنا العسكري هو أنا الروائي، ومَن تحاورين اليوم في بيروت هو نفسه الضابط الجزائري الذي كان من الممكن أن تُصادفيه منذ 20 سنة. وآمل أن أبقى كذلك وألاّ أتغيّر أبداً. «أحلامك وحدها قادرة على أن تُعيد لك بناء الحياة التي صودرت منك»... جملة جميلة ومؤثرّة كتبتها في روايتك «الاعتداء». هل لك أن تُخبرنا عن ذاك الحلم الذي يشغلك؟ - كتبت هذه الجملة ووضعتها أمامي في أسوأ الظروف التي مرّت عليّ، أي عندما انقلب عليّ بعضهم عند كشف هويتي الحقيقة ومن ثمّ اتهامي بانتحال شخصية ما والتشكيك في شرعية أعمالي... لكنّني كنت دوماً أحدّق في هذه العبارة وأتجرّع الكثير من الإيجابية والأمل لأنّ الأحلام فعلاً قادرة على إعادة خلق كلّ ما ضاع وتهدّم في حياتك. أمّا أجلّ أحلامي فهو ألاّ أتغيّر وأبقى كما أنا. تُرجمت أعمالك إلى 36 لغة منها العربية... هل قرأت الترجمات بلغتك الأم؟ وما رأيك فيها؟ - سأكون صريحاً معك للغاية، أنا قرأت كتبي بالترجمة العربية إلاّ أنّني لم أحبّها، فالترجمات تلك لم ترضني ولم تُقنعني. وبصراحة أفضّل أن يكون المترجم لبنانياً أو سورياً على أن يكون جزائرياً، لأنّ الجزائريين في شكل عام فقدوا المفهوم الصحيح للغة العربية وصرت أشعر أن ترجمتهم إلى العربية هي حرفية بعض الشيء، من هنا أرى أنّ على المترجم أن يكون ضليعاً في اللغة التي سوف يُترجم إليها كتاباتي حتى لا يُفقدها روحها ومعانيها الداخلية المستترة أيضاً.