سيليا، كان أسم المرأة، سيليا كيروان، والصورة التي نشرتها لها صحيفة الغارديان، على الصفحة الأولى، ترينا أي نوع من النساء كانت: امرأة مغلقة إلى حد كبير، ملامحها تحوي كنزاً من الأسرار، لكن صرامة الوجه تحمل أيضاً ملامح جذابة جداً، بل ربما هو انغلاقها هذا، جعلها أكثر إغراءً وإثارة للرجال، خصوصاً لتلك الطبقة من الرجال الذين يشعرون بمتعة العمل مع الأحاجي والكشف عما هو غير قابل للكشف. نعم، كل شيء فيها يشير إلى أنها امرأة، تملك ما يكفي من الألمعية والإغراء الساحر والذكاء، لإدارة عقل رجل، أُعتبر لنزاهته وصدقه ضمير بريطانيا، وكان فوق كل الشبهات، وبخاصة تلك التي تتعلق بالتجسس والوشاية وكتابة التقارير، أولاً لأن القسم الكبير من الذين وشى بهم، كانوا أصدقاء له، وبعضهم كان رفيقاً له في الحرب الأهلية الأسبانية، عندما كان يقاتل في صفوف الفرق الأممية التي تطوعت لنصرة الجمهورية الأسبانية ضد الجنرال فرانكو" وثانياً لأنه هو وليس غيره من منح أعمال الوشاية والتجسس والمراقبة اسماً وصورة في أكثر من عمل أدبي له، مثلما ثبت اسماً "خالداً" لكل أنواع المراقبة الصارمة، قبل أن تتحول إلى جزء من روتين حياتنا اليومية، وتجلس معنا في غرفة الضيوف، حيث يشتغل التلفزيون: "الأخ الأكبر: بيغ براذير". جورج أوريل، مؤلف "1984" و"مزرعة الحيوانات"، الكاتب غير المرتشي، وغير المزيف، الروائي الذي كان يحذر من كل الأنظمة التوتاليتارية، التي تهدد المجتمع الحديث والبشرية، والذي تحدث بدقة وببراعة عن محنة الأشخاص الذين يقعون في حبائل هذه الماكنة الكبيرة، وعذابهم عندما يتعرضون للمراقبة والتنصت، لم يستطع هو ذاته تجنب الوقوع في المستنقع الذي حذر الآخرين من الوقوع به. وبالضبط مع مناسبة الاحتفال بمئويته، كتب الناقد الإنكليزي تيموتي آش، مقالاً في صحيفة "الغارديان" البريطانية، يؤكد فيها الإشاعات المتعلقة بأورويل، ويقدم أدلة تثبت، أن أورويل وقع بالفعل في مصيدة ال"بيغ براذير"، وأنه خان بذلك المبادئ التي دعي إليها، وأنه وشى الآخرين بحماسة، تفوق حماسة شخصياته الروائية، على رغم معرفتنا بتحوله إلى كاتب تقارير، بسبب وقوعه في حب "يائس". جورج أوريل دون 38 اسماً، استلهم من دفتر ملاحظاته، وأرسلهم "ممنوناً" إلى الجميلة، الأخت الكبرى، سيليا كيروان، التي طلبت منه أن يقوم بذلك العمل، وهو يعرف أنها كانت تعمل في وزارة الخارجية البريطانية، في قسم البحث عن المعلومات Information Research Department، الذي هو بمثابة وكالة "سي أي أي" البريطانية. دوَّن 38 اسماً من غير الموثوق بهم في زمن الحرب الباردة، كأشخاص غير مرغوب بهم حينها في الغرب، بسبب تصنيفهم على قائمة اليسار و"أبواق دعاية للشيوعية الهدامة". دوَّن 38 اسماً، ضمنهم تشارلي تشابلن، الممثل ميشائيل ريدغريف، كيغسلي مارتن، والكاتب الناجح "ج.ب. بريستلي، والكاتب المشهور لسيرة ليون تروتسكي اسحق دويتشر"، أرفق جورج أورويل وبخط يده تحت اسم كل واحد منهم ملاحظاته الخاصة، فمثلاً عن مؤلف "تروتسكي: رجل دولة جديد"، أسحق دويتشر، كتب أوريل: "متعاطف المشاعر. من وجهة نظر ذاتية محضة، لا يمكن في الحقيقة اعتباره مناصراً للشيوعية. ربما يكون غيَّر رأيه". ومن أجل إنصاف "الواشي" جورج أوريل، نذكر هنا، أنه كان يضع علامة استفهام عند بعض الأسماء، ربما لأنه، كما يبدو، لم يكن متأكداً من موقفهم تماماً. ولكن من الواضح أيضاً، أن جورج أوريل وعلى رغم شكوكه في ما يتعلق بموقف البعض، لم يتردد في كتابة أسمائهم، لأن ما كان يهمه، هو الوشاية فقط، تقديم خدماته بطواعية وسخاء للجميلة سيليا كيروان. أنها مفارقة بالفعل، أن يتأخر الكشف عن هذه القضية كل هذه السنوات، ويتم تسويق أورويل "النظيف تماماً"، وربما يعود ذلك لسببين، الأول: هو قوة ال"بيغ براذير" الغربي الذي لم يشعر كل هذا الوقت بالتهديد من أدب أورويل، على العكس، استفاد منه بتعبئة الرأي العام ضد الدول الديكتاتورية الشيوعية، وثانياً، في هذه الأزمان بالذات التي تحول فيها ال"بيغ براذير" الغربي إلى ماكنة ضخمة تصاحب الإنسان أينما تحرك من مكان العمل حتى البيت، مروراً بمكان التسوق والتنزه، أصبح من الضروري القول ان ليس هناك في النهاية من لا يؤمن بصلاحية نظام المراقبة التامة، وعاجلاً أم آجلاً سيجد الجميع ضرورة التعاون مع السلطات. على أية حال، كما يبدو أن السلطات البريطانية تمتعت بصبر طويل جداً، عندما لم يثر ال"بيغ براذير" البريطاني هذه القضية كل هذه السنوات، ولم يفضح ازدواجية الكاتب الذي شرح في أعماله نظام المراقبة ووشاية المواطنين بعضهم بعضاً. واحتفظت السلطات الرسمية في بريطانيا بهذه الوثائق، في ملف خاص مختوم "سري جداً"، وفي العام 1994 فقط، أرسلت الملف إلى سيليا كيروان شخصياً. بعد وفاة سيليا كيروان، في العام الماضي، كلفت أبنتها الناقد والصحافي البريطاني توموتي آش، بالكتابة عن الموضوع في الصحافة، لكي يعرف الرأي العام بحقيقة وجود هذه الوثيقة. أنها قصة تثير العديد من التساؤلات، ابتداءً من أسماء كل أولئك الذين وضعهم جورج أورويل على قائمته، وانتهاءً بمرارة معرفة الحقيقة التي تبين المدى الذي وصل إليه نظام ال"بيغ براذير" لدرجة أن شخصاً مثل أورويل وشى بأصدقائه وزملائه. والرأي العام. يعرف قصصاً بالوشاية مشابهة لهذه، سواء في الولاياتالمتحدة الأميركية، في زمن السناتور مكارثي، في سنوات الأربعينات والخمسينات، أو في الألمانيتين: ألمانيا الهتلرية، وألمانيا الشيوعية لاحقاً، وكل تلك القصص ما زالت تثير الكثير من النقاش المرير حتى يومنا هذا. أنها قصة إنسانية مرعبة، يعلق تيموتي آش، في مقاله في الغارديان، وبالنسبة إليه "لم تُلوث سمعة أورويل بسبب تلك القصة"، لأن ما فعله يختلف عما قام به الآخرون من الكتّاب الوشاة، لأنه بحسب آش، "كان خائب الظن ويائساً في ذلك الوقت، في العام 1949، لأن حبه لم يجد استجابة عند سيليا كيروان، وأنه كان يائساً بسبب التطور الذي أنتجته الستالينية السوفياتية - الحلم بتحرير البشرية عبر الاشتراكية انتهى، إضافة إلى ذلك، كان أورويل مريضاً، وبعد عام من ذلك التاريخ مات صريعاً لمرض السل". إذاً جورج أورويل، الذي هاجم الوشاية كل حياته، تحول في السنة الأخيرة من حياته إلى أحد الوشاة: أية تراجيدية. أنها قصة إنسانية مرعبة، أكثر مما هي سبق صحافي "فضائحي"، وهي هدية من ال"بيغ براذير" لجورج أورويل في عيد ميلاده المئوي، هدية من نوع خاص جداً، لرجل من طراز خاص. ما الذي تضيفه لنا القصة، نحن الذين نقرأ ونكتب بالعربية، وبخاصة في هذه الأيام، بعد أن أُثير في العراق، اكتشاف قوائم بأسماء "مثقفين" عرب تجسسوا لل"بيغ براذير" البعثي، ووشوا بحماس وطواعية بزملاء لهم؟ شخصياً، سأكون سعيداً جداً، لو قرأت أو سمعت اعتراف أحد هؤلاء "الوشاة" بأنه فعل ذلك، ليس بسبب "المشروع القومي الذي قاده في العراق حارس البوابة الشرقية للأمة"، وليس بسبب "تحرير فلسطين"، إنما بسبب امرأة جميلة، حينها سنملك على الأقل "مثقفاً" واحداً، فعل شيئاً جديداً.