أبلغ رسالة بعثها الفلسطينيون، سلطة وفصائل، ان الفلسطينيين لن يذبحوا بعضهم، فهذه خطوط حمراء، ولذلك تم توحيد القرار الفلسطيني عند وقف النار وتمكين السلطة الفلسطينية من التصرف كحكومة باسم الشعب من أجل قيام الدولة المستقلة. القرار حكيم وتزداد حكمته في صوغ مرحلة "باء" في الاستراتيجية الفلسطينية في حال قضى التطرف الاسرائيلي، أو الفلسطيني، على طموحات خطة الطريق الى دولة فلسطينية، اثناء الثلاثة اشهر الأولية في اتفاق وقف النار. مرحلة "باء" يجب ان تطلق نوعاً جديداً من المقاومة الفلسطينية للاحتلال الاسرائيلي. من مقاومة مدنية غير مسلحة الى عصيان جبار يقزم الاحتلال وحكومته ويقلب الطاولة على التطرف الاسرائيلي والاميركي المتمثل في المحافظين الجدد. فرهان هؤلاء هو على ارهاب فلسطيني من فصائل فالتة يؤدي الى انقلاب الرئيس الاميركي جورج بوش على التزامه وتعهده برؤية الدولتين، اذا تبعه انهيار لوحدة القرار الفلسطيني بوقف النار. وهذا ما يجب ألا يحصل. ضروري للفلسطينيين ان يدركوا ان في أياديهم الآن مفاتيح مهمة الى صنع السياسة الاميركية. بوسعهم إلحاق بعض الهزيمة، بل الهزيمة، بطموحات تطرف اسرائيل والمحافظين الاميركيين الجدد، اذا ما سحبوا الذرائع وتبنوا استراتيجية واعية تمكن بوش من تنفيذ تعهداته. مواقف بوش مهمة، انما اهميتها تزداد عند التدقيق في ابعاد تأثيرها على القاعدة الشعبية الاميركية، سيما المحافظين المسيحيين منها، اذ في وسعه نقلهم معه الى علاقة جديدة ومنظور جديد نحو الفلسطينيين والنزاع العربي - الاسرائيلي. فتعهده والتزامه الشخصي بانجاح رؤية قيام دولة فلسطين الى جانب اسرائيل اصبح رأسمالاً قيماً في نظر اكثرية القيادات العربية و"الرباعية" التي تضم الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا، الى جانب الولاياتالمتحدة. لذلك فإن جزءاً كبيراً من الاستثمار في "خريطة الطريق" عائد الى الرأسمال الذي يمثله بوش. هناك شكوك ومخاوف من انقطاع استمرارية التزام الرئيس الاميركي، سيما مع حلول الانتخابات. ورهان المحافظين الجدد هو تماماً على انحسار اهتمام بوش بالرؤية والخريطة بعدما تحقق شيئاً ما في الطريق اليهما. وتوجد مبررات للشكوك، بعضها له علاقة بسجل بوش، وبعضها ذو علاقة بتاريخ عمليات السلام في الملف العربي - الاسرائيلي. فليس سهلاً الثقة الكاملة بالرئيس الاميركي سيما بعدما حدث على أيادي المحافظين الجدد، وبالذات في ما يتعلق بالملف الفلسطيني - الاسرائيلي. ذلك انه في نيسان ابريل عام 2002 أدلى جورج بوش بخطاب وضع اسس حل النزاع العربي - الاسرائيلي بشمولية مشجعة، وأوضح ان الدولة الفلسطينية ستقوم مكان احتلال عام 1967. وكان ذلك الخطاب نقطة تحول نوعية في السياسة الاميركية نحو المنطقة وحمل في طياته وعوداً عادلة ومدهشة. بعضنا، وصاحبة هذه الزاوية، استثمر غالياً في خطاب نيسان ابريل، الى حين نجاح المحافظين الجدد وموجدي الاعذار للتطرف الاسرائيلي في قلب المقاييس والتأثير جذرياً في صنع السياسة الاميركية. فجاء خطاب حزيران يونيو ليمثل دفناً رسمياً لخطاب نيسان. وكان هذا مثالا على قدرة التنظيم والمشاركة الفعلية واللوبي في اخذ سياسة اميركية معلنة وتحويلها الى سياسة مختلفة جذرياً في غضون ثلاثة اشهر. الآن، يعود خطاب نيسان الى الساحة خلسة، ويجب ان يعود جوهراً في المحادثات. فهو جزء من السجل الذي تمت إطاحته. انما جوهره ما زال بالغ الأهمية، وأهميته تتعلق بشكل الدولة الفلسطينية وحدودها في الرؤية. ذلك الخطاب تحدث عن دولة فلسطينية تحل محل الاحتلال. وذلك الخطاب يشكل أقرب التزام اميركي بدولة فلسطينية على البقعة التي احتلت عام 1967. انه خطاب، شأنه شأن خطاب 24 حزيران، ويجب احياؤه. والهدف ليس مجرد المزايدة وانما الاحتراس، فبدلاً من التقدم بطروحات جديدة قد تبدو اقحاماً غير مرتقب على المحادثات، توجد وثيقة اميركية علنية يمكن الاستعانة بها في وجه محاولات اختصار الدولة الفلسطينية الى ما قد يريده رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون. فشارون لن يسلم إلا بقدر ما يفرض عليه الرئيس الاميركي، مباشرة أو غير مباشرة. هي ذي خلاصة المعادلة. فهو لم يستيقظ فجر يوم ليكتشف في نفسه وحياً، وهو في حاجة للضغط الاميركي حتى وان كان ضمناً قد توصل الى اقتناع بضرورة سيرة بديلة له عن سيرة القتل والدمار. وحتى لو كان في ذهنه خلاص اسرائيل من التدهور، الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والمصيري، فإن شارون في حاجة الى بوش لدفعه وهو في حاجة اليه غطاء ضرورياً في السياسة الاسرائيلية الداخلية. وبوش يدرك ذلك. انما لن يتمكن من الضغط على شارون ما لم يكن الفلسطينيون ذخيرة له، سيما في المرحلة الانتخابية. فهو لن يكون قادراً على مقاومة ضغوط المتطرفين واتهامهم له بالازدواجية اذا ما غض النظر عن عمليات ارهابية فلسطينية، سيما وان اساس وحيوية الدعم له انه استطاع الانتقام من الارهاب وتكفل بهزمه. هناك تكافؤ اخلاقي بين تطرف وارهاب الفصائل الفلسطينية للاسرائيليين المدنيين وبين تطرف وارهاب الحكومة الاسرائيلية للمدنيين الفلسطينيين. هناك تكافؤ لكنه مرفوض قطعاً اميركياً، وهناك نفي له ليس فقط في القطاع الحكومي الاميركي وانما على الصعيد الشعبي والاعلامي نتيجة لوبي منظم حرص على ذلك. لهذا فإن طرح معادلة التكافؤ ضروري انما ما يعززه هو القرار الفلسطيني الحكيم بفضح الجانب الاسرائيلي بالتوازي مع تحول المقاومة الفلسطينية مقاومة مدنية. وهذا ينقلنا الى الحديث عن تفكيك البنية التحتية وتسريح الفصائل الفلسطينية مما تتحدث عنه الحكومتان الاميركية والاسرائيلية. الحكومة الاسرائيلية، بالطبع، تحلم بتفكيك البنية التحتية لكل مقاومة فلسطينية وليس فقط للفصائل التي حرّكت الانتفاضة ودخلت حرباً مع اسرائيل يجوز تسميتها حرب الارهاب لأن الطرفين مارسا فيها الارهاب، كل بطريقته. والاسرائيليون، بأكثريتهم أو اقليتهم، يودون لو تتطور الحروب الفلسطينية - الفلسطينية الى حمام دم يزيل الفلسطينيين بوصفهم "عثرة" في طريق الطمع والتسلط والعنجهية والتوسعية الاسرائيلية. الإدارة الاميركية ليست على الصفحة ذاتها للمتطرفين في الحكومة الارائيلية. فهي لا تريد حمام دم بين الفلسطينيين. وهي تعي ان حكومة محمود عباس غير راغبة وغير قادرة على تفكيك منظمات مثل حماس. لذلك، فهي لا تتوقع تفكيك حماس أو تسريحها فوراً. ما تأمل به هو ان تتمكن السلطة الفلسطينية من ملء فراغ أملته حماس في حياة الشعب الفلسطيني. تأمل بأن تتمكن السلطة الفلسطينية من ان تصبح حقاً سلطة فاعلة تمسك القوانين وتزيل الفساد وتلتزم المؤسسات وتبني المستشفيات وتشيد المدارس وترعى الأيتام وتتسلم مهام الأمن في الساحة الفلسطينية. فإذا تمكنت السلطة الفلسطينية من القيام بهذه المهام لتحوّل إليها، بدلاً من "حماس"، دعم وثقة القاعدة الشعبية، فهذا في رأي الإدارة الأميركية كما غيرها، شكل من أشكال تفكيك "حماس" كمنظمة بديلة عن السلطة الفلسطينية. موافقة المنظمات الفلسطينية على وقف النار ودعم قرارات السلطة الفلسطينية مرهونة بنجاح السلطة الفلسطينية. ونجاح السلطة الفلسطينية مرهون بشراكة الفصائل الفلسطينية معها. هذه ليست بالضرورة حلقة مفرغة، وإنما مرحلة حكيمة في العلاقة الفلسطينية - الفلسطينية انطلقت من توحيد القرار الفلسطيني في هذا المنعطف. هذه الوحدة قد تكون تكتيكاً عابراً أو استراتيجية بعيدة الأهداف، وهذا يعتمد على توصل الفلسطينيين كافة إلى قرار بدعم حل قيام دولتين، فلسطين وإسرائيل، مما يعني تحولاً جذرياً في عمق بعض الفصائل والقاعدة الشعبية الموالية لها بالقبول بإسرائيل. في هذه الحالة، لا بد أن تعتمد الاستراتيجية الفلسطينية على شراكة ذات نوعية جديدة مع الولاياتالمتحدة وتقوم بكل ما من شأنه احباط أجندة المتطرفين الذين يتمنون عودة العمليات الانتحارية وانهيار وحدة الموقف الفلسطيني. ذلك أن تنفيذ عمليات انتحارية تؤدي إلى قتل عدد كبير من المدنيين الإسرائيليين، سيشكل مشكلة ضخمة للرئيس الأميركي، لا سيما إذا كان في الإمكان منعها أصلاً. فالمطلوب هو بذل الجهد مئة في المئة، والحسابات الواقعية تتوقع محاولات هنا وهناك لفصائل فالتة. إنما الإدارة الأميركية لا تريد العمل على أساس "بطاقة تسجيل اصابات" وهي تتوقع عملية بناء الثقة وبناء السلام على أن تكون طويلة. جزء من هذه العملية، إلى جانب الخطوات التي وضعتها "خريطة الطريق" ضمن اطر زمنية على إسرائيل والسلطة الفلسطينية اتخاذها بالتوازي، يتعلق بحائط الفصل الذي بدأت الحكومة الإسرائيلية بتشييده. الإدارة الأميركية أبلغت ارييل شارون ان هذا الحائط يتنافى مع مبدأ قيام دولتين جنباً إلى جنب على رغم قوله انه لا يشكل حكماً مسبقاً على حدود الدولتين. شارون لن يهدم الآن ما تم تشييده من الحائط، بل يريد المضي بالبناء. ما تتوقعه الإدارة الأميركية هو الابطاء الشديد في بناء الحائط، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى زواله، إنما الابطاء سيأتي في الأفعال من دون الاعتراف الإسرائيلي العلني بها. إذ طالما هناك أفعال إسرائيلية أو فلسطينية، فالإدارة الأميركية أقل اهتماماً وأكثر تفهماً لغياب الاعتراف بالأفعال أو الإعلان عنها. مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس ووزير الخارجية كولن باول، وهما الفريق الذي عيّنه جورج دبليو بوش لمساعدة الطرفين على بدء تنفيذ "خريطة الطريق" ومراقبة التنفيذ، يريدان النتائج الملموسة وأولها الشق الأمني لإسرائيل وشق قيام حكومة فلسطينية متمكنة تعمل بشفافية. رسالتهما إلى الطرفين تنطلق من تشجيعهما على الكف عن التركيز على ما هو مطلوب من الطرف الآخر وبدء تركيز كل طرف على المطلوب منه. المشكلة الرئيسية تبقى مشكلة الثقة والشكوك التي لا تنحصر في الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وإنما تطال أيضاً الإدارة الأميركية. الرئيس جورج بوش تفهم هذه الشكوك أثناء حديثه إلى "الحياة" قبل أربعة أسابيع، وأصر على أن في استطاعته الضغط على الطرف الإسرائيلي حتى أثناء حملة انتخابية، وتعهد بالتزامه القاطع بانجاح "خريطة الطريق" إلى قيام فلسطين إلى جانب إسرائيل. حتى الآن، حسناً فعل، والمؤشرات تفيد باستمرارية الالتزام. ما من شأنه أن يساعد في دفع التطورات إلى المزيد من الايجابية هو بروز موقف للرئيس الأميركي يبدد الشكوك بأن هذه مجرد عملية ذات بداية. فالمطلوب تعريف النهاية بصورة أوضح والتعهد بعدم انحسار الاهتمام والالتزام. وهذا موجود في المواقف الأميركية التي تحدثت عن قيام دولة فلسطين مكان الاحتلال عام 1967. هكذا يتم الزام الجميع، فلسطينيين وإسرائيليين وأميركيين، بهدف واضح في "خريطة الطريق"، إنما يتطلب ابرازه علناً لاحياء بعض الثقة والتفاؤل في بقعة اعتادت التشاؤم والتشكيك.