في خطاب شديد اللهجة ألقاه الرئيس بوش أعلن أن بلاده سوف تبقى في موقع الهجوم" في العراق، "فما دام الإرهابيون وحلفاؤهم يتآمرون لإيذاء أميركا، فنحن في حرب". ولكن هناك وراء هذه اللهجة القوية قلقا متزايدا، فقد بدأت أميركا تدرك بأن مهمة نشر الأمن والسلام وإعادة إعمار العراق تفوق امكاناتها. وفي ما تواجهه القوات الأميركية من هجمات شبه يومية وعداء من قبل السكان، بلغ الوضع في العراق حالة توشك بأن تشبه ما كانت عليه القوات الأميركية في فيتنام. وتدل آخر استطلاعات الرأي في أميركا على أن تأييد الاحتلال بدأ يضمحل، وأن أصوات التهليل بالانتصار بعد سقوط صدام بدأت تخفت، وأن السؤال الذي يطرح الآن في واشنطن: هل لدى أميركا استراتيجية للخروج من هذا المأزق؟ ومع ضرورة انتشار قواتها وضرورة تبديلها وتجديدها، أخذت أميركا تطلب مشاركة عسكرية من قبل سبعين دولة، وقد تجاوبت عشر دول فقط مع هذا الطلب. غير أن القوات البسيطة التي عرضتها بولندا، بل حتى الأعداد الكبيرة التي يمكن أن تعرضها الهند لن تغير كثيرا من صعوبة الوضع. فكما قال السناتور الديموقراطي كارل لفين بعد زيارة استطلاعية للعراق: "لا بد من الابقاء على المستوى الحالي للقوات الأميركية سنين طويلة"... ومن حقنا أن نتساءل: لماذا يلجأون إلى بولندا وليس مصر؟ ولماذا الهند وليس المغرب؟ ألم يحن الوقت ل"حل عربي" لأزمة عربية؟ أليس من واجب العرب أن ينهضوا ويتحملوا مسؤولياتهم في عقر دارهم؟ خلال الأشهر القليلة الماضية تقلبت المشاعر العربية كثيرا أمام تطور المأساة. ففي البداية، عندما كانت تتواصل المناقشات في مجلس الأمن، وحين كانت فرنسا وألمانيا وروسيا تعبر عن معارضتها للسياسة الأميركية، علق العديد من العرب آمالا على إمكانية تفادي الحرب وإيجاد حل دبلوماسي. ثم جاءت الصدمة الكبرى حين بدأ الهجوم الأميركي البريطاني في آذار مارس الماضي وتم القضاء على حكم صدام حسين مع احتلال العراق. وكانت الصدمة أقوى على الصعيد الشعبي بسبب تواطؤ بعض الأنظمة العربية مع قوات الاحتلال وعجز الدول الأخرى الواضح، بالإضافة إلى سقوط بغداد الذي أثار الدهشة بسرعته. فقد شعر العديد من العرب وكأن سنوات مقاومة الاستعمار الطويلة في فترة ما بين الحربين العالمتين، وتجربة الاستقلال بعد الحرب، أصبحت فجأة دونما أثر يذكر وكأنها قد تم محوها من كتب التاريخ. فللمرة الثانية، تتعرض "بلاد ما بين النهرين" للاجتياح من قبل جيوش غربية وتخضع للحكم العسكري الأجنبي كما حصل عام 1920. أما اليوم، فإن الهجمات على طريقة "اضرب واهرب" ضد قوات التحالف أعادت شيئا من الكرامة الوطنية ورد الاعتبار الذاتي العربي بعد الإهانات المؤلمة في الشهور الماضية. ولكن، أمام هيجان الشارع العربي، بدا الزعماء العرب كمتفرجين ببلادة على الكارثة العربية دون أن يفكروا فعلا بأنه حان الوقت كي يقوموا بدور فعال. هل من دور لجامعة الدول العربية ؟ أصبح مألوفا أن نرى و بخاصة في دول الخليج هذه الأيام، نزعة للهزء من الجامعة العربية ولوصفها بالمؤسسة العاجزة. فهي مكبلة بالخلافات بين أعضائها، وتصدر بيانات وقرارات قلما تدخل حيز التنفيذ. هذه الجامعة التي يعود تأسيسها لعام 1945 هي التعبير السياسي الوحيد عن واقع كون العرب أسرة واحدة، تجمعها أواصر، حتى في الظروف الحالية الصعبة، أكثر مما تفرقها الخلافات. وكمراقب ودارس لشؤون المنطقة منذ زمن طويل، أعتقد أن الجامعة في عهد أمينها العام عمرو موسى الذي يتمتع بمواهب استثنائية وتجربة غنية، تستطيع أن تلعب دورا رئيسا في الأزمة الحالية. وإني لأذكر كيف قام عبد الكريم قاسم عام 1961 بتهديد الكويت، وكيف استنجد الكويتيون بالقوات البريطانية لحمايتهم، ثم ما لبثت بريطانيا بعد ذلك بقليل أن عهدت بهذه المهمة إلى الجامعة العربية وحلت المشكلة على هذه الصورة. أما في العراق اليوم، فإن المشكلة الأساس هي الأمن. وإلى أن يتم توطيد الأمن، لا يمكن أن يتم أي إصلاح أو إعادة بناء سياسي أو اقتصادي. ولكن الأمن ما زال مفقودا والوضع يزداد سوءا كل يوم. وينسب بول بريمر، الحاكم الأميركي للبلاد أعمال العنف و"الإرهاب" إلى عناصر مرتبطة بإيران أو بالقاعدة أو بدول أخرى في المنطقة. وهنالك بعض المسؤولين الأميركيين الذين يعتقدون بأن صدام حسين هو الذي يقف وراء المقاومة المتصاعدة، وأن الأمن لن يلبث أن يعود بمجرد القبض عليه أو قتله. لكن هذا تحليل خاطئ لأن عهد صدام قد مضى وليس هنالك أي احتمال لعودته. والواقع أن الهجمات هي من فعل وطنيين عراقيين غاضبين من تدمير بلادهم ومن السيطرة الأميركية الثقيلة الوطء، ومحبطين أمام عجز الأميركان عن إعادة الخدمات الأساسية، وحريصين قبل كل شيء على أن يديروا شؤونهم بأيديهم، الأمر الذي ما زالت أميركا تتردد في الموافقة عليه رغم شعاراتها عن نشر الديموقراطية. لا بد أن يكون للعرب دور في إعادة إعمار هذا البلد العربي الكبير، فلا أحد سواهم يمكنه أن يقوم بهذا الدور ولا أحد سواهم يجب أن يتولاه. فمن السهل جدا أن نتخيل انتشار جيش من مائة ألف جندي من مصر وسورية والأردن والسعودية والمغرب. فمصر مؤهلة لتولي القيادة العسكرية بدعم مالي ولوجستي من أميركا والاتحاد الأوروبي. وسوف يكون تواجد قوة عربية في العراق أكثر قبولا لدى السكان من القوات الأميركية والبريطانية، وأقدر على تولي الخدمات الأمنية الرئيسة أولا، وإعادة هيكلة الشرطة والأجهزة الأمنية كما تفعل مصر والأردن حاليا في مساعدة الفلسطينيين، ومن ثم إعادة الأمن والنظام في سائر أنحاء البلاد. أما إعادة البناء السياسي، فيجب أن يترك للعراقيين، ولهم وحدهم، في حين تتم إعادة البناء الاقتصادي تحت إشراف وإرشاد الأممالمتحدة وبأموال وخبرة تقدمها جميع الدول الصناعية الكبرى، لا أميركا وبريطانيا فحسب. وإذا ما تم تبني مثل هذا البرنامج، فيمكن عندئذ تفادي الأخطار والمشاكل الأخرى. ربما حالت الصلافة الاستعمارية، والتخوف من تهمة التهرب، دون قبول واشنطن ولندن بمثل هذا "الحل العربي". لكن ليت العقلانية وحس المسؤولية يدفعانهما للنظر جديا في هذه الفكرة. عندها تستطيع دول التحالف أن تدعي أن لها الفضل في تخليص العراق من ديكتاتور قاس دون أن تواجه تهمة الامبريالية. وكما تبدو عليه الأمور حاليا، فإن القوات الأميركية تواجه وضعا في العراق أصعب من حربها في فيتنام. فهنالك كان لها شركاء يحاربون إلى جانبها، وكان لهم دولة عميلة فيتنام الجنوبية وحكم محلي عميل وجيش تابع. أما في العراق، فلا يوجد شيء من ذلك. فقد دمروا الدولة ثم وجدوا أنفسهم معزولين ودون أي أصدقاء. ولعل وضعهم الآن يشبه وضع إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة ولكن على نطاق أوسع. وقد بدأت الإشاعات تسري عن تصرفات أميركية وحشية في العراق تماثل ما تلجأ إليه إسرائيل من غارات قاتلة، واستخدام الجواسيس والمخبرين، والاعتقالات الجماعية والاستجوابات الخشنة، وما إلى ذلك من تصرفات من شأنها إفساد المحتل الأميركي والشعب العراقي المحتل. ولقد صرح أحد رجال الدين العراقيين هذا الأسبوع بأن الأميركيين حين يعتقلون شخصا ما "يغطون رأسه بكيس ويكبلون يديه ويلقون به على الأرض لمدة ساعتين تحت الشمس اللاهبة". وهذا ما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين، وهو حتما ليس بالأمر الذي يدفع العراقيين إلى قبول الحكم الأميركي أو احترامه. ولم يعد العرب اليوم يطيقون أي تجربة استعمارية جديدة، كما أن العراق وهو الذي يعتبر من أكثر الدول العربية تقدما، هو آخر من يمكن أن يقبل احتلالا أجنبيا طويل المدى. حتى الأفراد والتكتلات التي رحبت بسقوط صدام حسين، بدأت تفقد الصبر أمام التباطؤ الأميركي في تسليم الحكم إلى إدارة عراقية مؤقتة. إن على واشنطن ولندن أن تبدآ مفاوضات فورية مع الدول العربية الرئيسة ومع أمين عام الجامعة العربية من أجل وضع مسؤولية العراق في أيد عربية. وسوف تظهر فوائد ذلك فورا بالنسبة لجميع الأطرف. فيتوقف قتل وجرح الجنود الأميركيين والبريطانيين وتنطلق طاقات عراقية هائلة للعمل على إعادة بناء بلادها. بذلك تنتهي الخلافات العربية حول الحرب كما تنتهي الخلافات بين أميركا والدول الأوروبية الكبرى. ويشعر العرب جميعا باسترداد كرامتهم بينما يدرك الأميركيون بأن سمعتهم وسلطتهم قد تعززتا بعد زوال قلقهم من الإرهاب ومن موجة العداء لأميركا السائدة حاليا. وهكذا فإن السبيل الوحيد لإعادة الشعور بالأمن للقوات الأميركية وكذلك للمواطنين وللمصالح هو في وضع حد للمشاريع الإمبراطورية في العراق، وفي العمل الملح على إيجاد حل عادل للنزاع العربي الإسرائيلي. فعليهم أن يتذكروا بأنه كلما طال بقاؤهم في العراق أصبح خروجهم منه بشرف وكرامة أصعب بكثير. * كاتب بريطاني خبير في الشؤون العربية.