من النادر أن يحظى رجل أو امرأة بالبطولة في رواية عربية، وهو أو هي على حافة القبر، بعدما انطوت سبعون أو ثمانون سنة من العمر. لكن الروائي التونسي المقيم في باريس الحبيب السالمي يفرد لتلك اللحظة الخاصة من العيش روايته الجديدة "عشاق بيّه" دار الآداب. وبدلاً من عجوز واحد يجمع أربعة يقتربون من الثمانين في ركن منسيّ من الريف التونسي، وفي زمن لا يحدده إلا إدبار عهد الفرنسيين والاستعمار، وإن يكن في وسع المرء أن يخمن زمن الاستقلال كزمن روائي، ما دامت الرواية تخلو من أي إشارة الى ما تلا ذلك في العقود الأربعة الماضية. ولئن وشى ذلك بأولوية الشخصية في "عشاق بيّه"، فسرعان ما تؤكد الرواية بصمت رهيف أولوية الزمن وأولوية المكان اللذين عجنتهما الشخصية وانعجنا بها، مثلما ستؤكد الرواية ذلك كله بسردها المتفرد في عريه وصوته. هل يفسح النقل لمثل هذا التعبير؟ تبدأ الرواية بالحركة شبه الوحيدة، والتي تنظم عيش العجائز الأربعة، كما تنظم السرد. فتحت "زيتونة الكلب" يجتمع البرني والمكي ومحمود الصباحي والطيب. وكما في نهاية الرواية، هي ذي في فاتحة الرواية ساعة البرني الذهبية الألمانية، تطلق القول على وجهيه: الظاهر الذي يحرك الذكريات ويمتلئ بمشاحنات أصدقاء العمر، والباطن الذي يؤكد أن الزمن هو البداية والنهاية لهؤلاء المتطوحين على حافة القبر، مثله مثل "زيتونة الكلب". كان والد البرني، بتكليف من الحكومة، هو من يردع زرّاع حشيشة التكروري، وهو من جاء بأول ساعة الى دوّار العلا وكل الدواوير، وأورثها لابنه الخبير بتجارة الغنم، وصاحب اللسان الذي يغزل على الحرير كما يقول محبوه، والمنبهر كغيره بقوة الألمان. وحفظ البرني القرآن، وسافر وخالط العلماء - رجال الدين - ويسّر لمحمود الصبايحي الزواج من خدوج، شقيقته. وإذا كان الصبايحي مهووساً بالدقة والنظافة، ويكابد السل وسعاله، فالطيب الذي يصفه البرني بالأعمى، هو من يقلل من شأن الساعة، فتثور ثائرة البرني، فيما رابعهم وأصغرهم المكي الذي ينادونه بالفرخ، يزدرد في انطوائيته متعة المشاحنة - الحوار، حتى يهتف بهم محمود مباغتاً بالدعوة الى الوضوء والصلاة. لن تذكر الساعة بعد هذه البداية حتى تختم الرواية بموت محمود وحزن صحبه عليه، وقدومهم بعد دفنه الى الزيتونة، حيث يتشاحنون في شأنه، ثم يخرج البرني ساعته، ويتأملها طويلاً، ولا يعاكسه الطيب. والبرني الآن هو من سينادي الى الوضوء والصلاة، لنودعهم أخيراً وهم "يركعون ويسجدون. وبين حين وآخر ترتفع أصواتهم للتكبير في تنافر لذيذ. والخلاء من حولهم يصغي". بين هذه النهاية وتلك البداية ستتوالى لقاءاتهم التي اعتادوها منذ أعوام عقب الغداء والقيلولة، إذ يحملون أباريقهم ويمضون الى زيتونة الكلب حتى المغيب، ولا ينقض ديدنهم مطر ولا حر ولا جنازة ولا عيد ولا مناسبة. وقد يلعبون لعبة الخربقة، أو يفيدون من صندوق الصبايحي المقصات وماكينة الحلاقة... ويتقلبون مع ناظمهم الآخر للوقت وهو ظل الزيتونة "يحكّون صدورهم وظهورهم باستمتاع واضح. ينظفون أسنانهم وآذانهم بما يعثرون عليه من أعواد. يقلّمون أظافرهم ويعالجون ثآليلهم وبثورهم ودمّلهم. يذرون الرمل الساخن على وجوههم المفتوحة بعد أن ينظفوها من كل ما تجمع فيها من قيح ودم فاسد". يقيم السرد بمثل هذه اللغة التي تناجز الماضي - الشيخوخة بفعل المضارع، فصلاً من الرواية تلو فصل، كما يقيم الحوار فصولاً، مشبعاً بخصوصية كل شخصية. كان يرمي المكي المثقف فيهم: البرني، بأسئلة الموت والقيامة والجحيم، فتربك الأسئلة دخيلة البرني. وستقلق مثل هذه الأسئلة سريرة محمود الصبايحي فيما برد الشتاء يلفحه بالموت، مثل قطرات الدم التي يقذفها سعاله. وإذ ينتصر محمود على الشتاء سنراه يصر على الانفراد تحت الزيتونة، والظلام يلفعه، ونقرأ: "كان يشعر بأن ثمة ما يشده الى زيتونة الكلب كما لم يشده أبداً من قبل، منذ أن صار يتردد على المكان. إحساس غريب لا يدري كيف يصفه، إذ انه خليط من الكآبة والانتشاء والخفة والتخلص من عبء ما". من قبل، ومع مخاتلة الموت للقاء الأصدقاء كل حين، ومع مخاتلة الذكريات، تنهض الرواية على ما يتعلّق بالأرملة بيّهالتي صارت تُنادى بالهجّالة. وأول ذلك هو حضور شقيقها العيدي الى الزيتونة شاكياً دعوى مراودة محمود لها، كما شاع في الدوار. وسيكون تحقيق الآخرين الذي يقوده البرني حتى يقاطعهم نداء الصلاة. ثم ستكون رواية الصبايحي لنجدته بيّه، مكذّباً ما روت عن اعتدائه عليها. وسيكون أيضاً تحقيق البرني مع محمود، بمعزل عن الآخرين. فالبرني لم يكف يوماً عن اشتهاء "بيّه" في سره، منذ رآها في الخلاء عارية. وهو، وإن كان يعرف أن نفسه "ماتت" منذ زمن بعيد، فإن قلبه يرغط بذلك الشيء "الذي هو هبة ونعمة من عند ربي"، ولذلك يثير غيرته من أن يصدق إدعاء الهجالة، ويكون محمود قد تمكن منها، كما يعزيه أن محمود - في هذا السن - لن يقدر على ذلك: وها هنا يحضر علي لبن المكي من مهجره الألماني فيخضّ العصبة كما يخضّ الدوار. فعليّ ملّ الروميات "مللت اللحم الأبيض البارد... أريد لحماً حاراً" يتزوج بيّه. ومن مناوشات العجائز بالعمل المعيب الذي كان لعلي يعمل قبل الهجر "ممرض مخدِّر"، الى اشاعات طلاقه وزواجه ما جاء به لأبيه ووعده له بالحج، الى ما يفجره حضوره من ذكريات محمود عن الألمان، وما يفجره عرسه من ذكريات محمود عن عرسه هو، ستشغل بيّه الجميع. وسيشعر البرني بقليل من الحقد على ذلك الذي ظهر فجأة ليفسد الأمور، ويحدث خللاً في نظام الدوار، كما سينفجر هذيان الطيب أمام صحبه عن الهجّالة، فهو الآخر عاشق لها في سره. وإذا كان سيبدو نادماً على ما هذى به، في خلوته مع البرني، فالأخير سيحلم بالهجالة تحت الزيتونة. لكنّ زوجته لن تلبث أن تملأ الحلم، حتى إذا مضت بيّه مع علي الى ألمانيا، رانت الذكريات على الفصول التالية، من المكي واصطحابه لابنه علي الى سرقة الزيتون والأرانب والدجاج، فسرقته الحمير من دون ابنه، وبصحبة الطيب. ولأن لا بد من حكاية ما، فالبرني يلح على الطيب أن يحكي حكاية حانوت القمار. والطيب الذي لا يجيد حكي الحكاية، يحاول أن تكون هذه المرة أجمل من أية مرة سابقة. لا يغفر البرني لبيّه زواجها من آخر "كأنه كان لا بد من أن تظل أرملة الى الأبد". منذ أن شاءت الصدفة أن يراها عارية. كأنه كان ينبغي أن تبقى له وحده على رغم بعدها. وكما في حضورها، ستشغل بيّه عشاقها في غيابها، فالعيدي يأتي العجائز برسالة منها تشكو فيها الزوج الذي تكشّف عن لص. وإذا كان البرني يخشى الدفاع عن بيّه كيلا يثير شكوك المكي القديمة، فهو يتشفّى من ابن المكي، ويحار الآخرون الذين يخشون جرأته وصراحته، في صمته. يتفق العجائز على كتابة رسالة الى علي ليبدل سلوكه مع بيّه. وعندما يخبرهم العيدي بشكواه لدى الحاكم على عليّ، تبدأ بيّه تتحول الى امرأة عارية بالنسبة الى البرني، وذلك يذكره بالموت وانطفاء الرغبة، ويغمره الإحساس العميق باللامبالاة، وبهدأة الروح والجسد وقد استعاد توازنهما المفقود، بينما نرى الطيب يبالغ فيما يحسب انه ينتظر ابن المكي عند الألمان من سوء، لكأنما ينتقم بذلك لعشقه ولمعشوقته وينجدها، ويعاقب زوجها. وربما تراءى بعد كل ذلك ان بطولة الرواية تنعقد لهذه المرأة التي لا يحضر في الرواية من الجيل الصغر فالصغر سواها وزوجها وشقيقها. بيد أن عشق الطيب والبرني لبيّه، وانعقاد فصول جمّة عليها، يظل محكوماً بلحظة العجائز الأربعة على حافة القبر، وبالتالي: بالزمن، والذكريات، والموت، وبزيتونة الكلب التي ترمّز كل ذلك. فهي المكان السري المقدس والغامض كما يراها العيدي، والتجويف الهائل في جذعها هو القبر المائل دوماً لمحمود، وللجميع هي ذلك الكائن اللازمني الذي تستمر الحياة فيه بإيقاعها السري. ابتدأ الحبيب السالمي تجربته الإبداعية بمجموعته القصصية "مدن الرجل المهاجر" 1977 ثم جاءت رواياته "جبل العنز" 1988 و"صورة بدوي ميت" 1990 و"متاهة الرمل" 1994 و"حفر دافئة" 1999، صداقة وغيرة ومبالغة وعشقاً وموتاً، بلغة بسيطة شفافة ترتقي بسذاجة الشيخوخة الى مستوى فني رفيع، كما كتبت يمنى العيد على غلاف الرواية.