يضيء الحبيب السالمي ثنائية الموت والحياة في "عشاق بيّة" الصادر عن دار الآداب، بيروت، لدى أربعة رجال يقتربون من الثمانين، وبينما يهجس احدهم بالنهاية يخوض اثنان منهم الصراع الميؤوس منه مع الطبيعة ويتوهمان عودة شباب الجسد. تجمعهم الألفة والغيرة واللعب الطفولي في حيّز لا يتغير، "زيتونة الكلب" القديمة الشاهدة على الجنازات التي تمر قربها وتذكّر المستلقين في فيئها بمصيرهم القريب. يسخر الكاتب التونسي من المسنين بمرح وعطف ويترك ضعف اجسادهم وعجزهم عن ضبط وظائفهم يهزآن من رومنطيقيتهم الزائفة. تهتز الحياة الرتيبة فجأة عندما يتهم احدهم، محمود، بأنه راود الأرملة بيّة على نفسها. وتتغير فعلاً مع عودة ابن احدهم من ألمانيا وزواجه منها وسفرها معه الى أوروبا. توجع الغيرة البرني من محمود، حليفه وزوج شقيقته الراحلة، لأن هذا حقق ما حلم به منذ رأى بية "تتعرى ببطء بدا له غريباً ومثيراً" لتقصي في مكان تخيلته مهجوراً. يستعيد رؤيتها عله يجمع الرغبة بالقدرة، ويحرك جسده وهو مستلقٍ تحت الزيتونة "دون حرج او اي احساس بالخجل من نفسه ... يعرف ان نفسه ماتت منذ زمن بعيد لكن قلبه يكاد يحترق من الشهوة". بات الجسد هو النفس والهوية في آخر العمر الذي يسيطر فيه المرض والعجز والانتظار، وأمل في ان تكون الأرملة مخرجه من السلبية مع انها لم تكن "جميلة الوجه مثل زوجته جنات ولا بيضاء البشرة وطويلة وسمينة بالقدر الكافي مثلها". كانت الساعة الذهبية التي ورثها عن والده "أعز شيء الى نفسه" لتأكيدها مكانته كابن اول موظف حكومي وأشهر وأغنى رجل في المنطقة. غابت الساعة، رمز العز، التي بدأت الرواية بها لتسود الأحاسيس الثمينة والمحبطة ولم تعد إلا في النهاية رمزاً للنهاية والاستعداد لها. ترشد الأصدقاء الأربعة الى مواعيد الصلاة وتمنح البرني شعوره بالتميز والقيادة في وقت تتملكه اللامبالاة على نحو يشغل باله. فقد ما يتطلع إليه منذ تزوجت بيّة عليّاً وتحولت امرأة عادية مثل سائر نساء منطقته، يضربها زوجها ولا تنفع معه كل محاولاتها الذليلة لاسترضائه. الأحاسيس الموجعة التي جمّلت حياته بعض الوقت "تنطفئ الى الأبد ... كأنه يشفى اخيراً من مرض طال اكثر مما ينبغي". وانطفاء الرغبة واللامبالاة يحيله الى واقعه، الموت الذي يحوم ويزداد تهديداً بعد وفاة محمود المصاب بالسل. يسرد البرني في "عشاق بيّة" عارفاً، ماكراً، متديناً يحفظ قسماً من القرآن ويجيب بثقة وشك عن اسئلة المكي الذي يهجس بيوم القيامة. لكن العمل يؤهل الجميع للعب دور خاص في المخيلة والضمير الجمعي ويمنحهم جلالاً ومسؤولية وتميّزاً. العيدي، شقيق بيّة، يقصدهم لحل مشكلتها ويحس برهبة وخشوع عندما يراهم يصلّون في "مكان سري وغامض" كالزيتونة، ومع انه لا يقتنع برواية محمود عن تحرشه بشقيقته "أشفق على الشايب ولم يحتمل ان يراه في مثل تلك الحال...". محمود يزود المجموعة طقوساً تلون اجتماعات التأمل والثرثرة التي تجمعهم بعد قيلولة كل يوم. صندق الحلاقة يمنحهم فرصة الاعتناء بأجسادهم ويثبت عادات الشباب من حلاقة الرؤوس والذقون وشعر الأنوف وحتى أجزاء من الجسم. محمود يعتني بأدوات الحلاقة كأنه يطيل الشباب الموهوم في حياته وأترابه، والجميع يتحمّس لاستخدامها كأنه يحد من الأضرار اللاحقة بالجسد وتأثيرها في بناء صورة عن النفس. المكي المشاكس يولّد انفعالاً مضاداً لذلك الذي احدثته بيّة، زوجة ابنه. يأتيه هذا بهدايا ويعده بإرساله الى الحج فترتفع منزلة الرجل الفقير دفعة واحدة وتبلغ غيرة اصدقائه اقصاها. يعكس هؤلاء بيئتهم الضيقة المنغلقة ويعزون انفسهم معاً عندما يهتدون الى فكرة تخفف من حسدهم او تحاول ذلك. الهدايا ليست حلالاً ورحلة الحج لن تكون مبرورة لأنها "بفلوس الكفّار". ويقع في الإطار نفسه ما يرويه البرني عن لقائه ألماناً "أبناء كلب" ورفضه أطعمتهم المعلبة في ما يوحي تفوق ثقافته ديناً في مقابل قدرتهم الصناعية التي لا تضاهى في صنع الآلات وساعته الذهبية. تذكر النساء في معرض "كيدهن العظيم" وعهرهن المسلّم به و"لعنة الله" عليهن. البرني يرتاح من غيرته عندما يفكر ان محمود لن يتمكن من بية في سنّة، ولا يدينه بل يترك الحكم الأخلاقي للمرأة: "استسلمت له القحبة بعد تمنّع خفيف اذ انه يعرف النساء. يعرف جيداً كيدهن. يعرف ما يستطعن القيام به حين تستبد بهن شهوة الجماع". العيدي يشعر بعد رواية "الحادث" انه "رجل حقيقي" قادر على صون شرف عائلته لكن دفاعه مرتبط ايجاباً به وسلباً بشقيقته وزوجته. يلوم نفسه لأنه اصغى إليهما والأولى "قحبة فاجرة بخراء" وزوجته "البوّالة الغليظة الأرداف سيضربها حتى يسيل الدم من انفها وفمها". وتخضع بيّة لتغيّر في الصورة يصعد ليهبط بسرعة. عليّ بن المكي تركها صغيرة وسخة رائحتها كريهة ورأسها مملوء بالقمل وعاد ليجدها "امرأة حقيقية يشتهيها الرجال". رغب في لحمها الحار بعدما مل "الروميات" ولحمهن "الأبيض البارد" لكنه بدّل صورتها لتصبح مثلهن قبل سفرها معه الى ألمانيا. عندما تكتشف هناك انه سارق لا وظيفة عنده يتدهور وضعها وعلاقتهما وتبلغ الطلاق. ولا حضور للنساء، وتبقى بيّة ضميراً غائباً حتى عندما يروي شقيقها "الحادث" مع محمود بشكل حميم هزلي يتقدم بمرح وتساؤل وشك وحيرة وتقلب بية بين الخضوع للرغبة وضرورة الدفاع عن شرفها. اما الأجنبيات اللواتي تعرف علي إليهن فمذنبات، والطيّب يستغرب موافقة العيدي على زواجه بأخته: "أنا لا أقبل أن تتزوج اختي رجلاً عاشر الروميات". يلتقط الحبيب السالمي العالم الداخلي الذي يختبئ وينكشف في كر وفر، ويفضح الحيل النفسية التي نلجأ إليها، صغاراً ومسنين، كل يوم في نص حساس متين يبلغ اعماق الأصدقاء الأربعة من دون اللجوء الى التحليل المباشر. يحتفظ الكاتب باهتمام القارئ من اول الرواية حتى آخرها، وتبرز مقاطع عدة مشرقة اللغة كتلك التي تتناول لقاء بيّة ومحمود.